ليبيون يواجهون الحرب بالفن

"الفن يقاوم الحرب”، ربما هي مقولة لم يتم فهمها بالشكل الجيد، فالفن ليس سلاحا مباشرا يقاوم القذائف والنيران والخسائر والدمار، وإنما هو يقاوم الخراب الأكبر الذي قد يصيب الأرواح والبصائر والأفكار والأحلام، إنه مشكاة الدواخل الإنسانية، يرافقها في عتمة الحرب إلى نور السلام والتشبث بالبناء واستعادة الأحلام. “العرب” استطلعت آراء فنانين ليبيين، إلى أي مدى كانت الحرب حاضرة في لوحاتهم؟ وكيف جسدوا يومياتها وقاوموا الدمار بالفن؟
الفن في ليبيا يقاوم الواقع الذي تملأه الحرب والصراعات، يجسد الفوضى والحزن المرسوم على وجوه الليبيين بأساليب متنوعة في لوحات بالألوان القاتمة أو المبهجة، كل بحسب طريقته ورؤيته الفنية.
يقرّ التشكيلي رمضان بوراس بأن الحرب الدائرة في بلاده ساهمت في إعادة تفكيره في الكثير من الأشياء المادية والمعنوية والاجتماعية وحتى الاقتصادية بما أحدثته من تهديم في ميزان القيم المجتمعية التي “كنا نعتقد جزافا أنها أقرب في صفائها إلى الملائكية”، كما يقول.
كسر القيود
يقول بوراس “كثيرا ما كنت أعمل بكل قوة ونشاط في أصعب الأوقات على إقامة العديد من المعارض للفنانين والأطفال وتلاميذ المدارس، أيضا المسابقات الأدبية والفنية بصبراتة عبر جمعية صبراتة للفنون التشكيلية، وعبر مشاركاتي الشخصية بالداخل والخارج، وخوض مغامرة إعلاء أهمية صوت الفن عبر الرسم على جدار يبلغ طوله 103 أمتار وعرض 2.25 متر لمدة 45 يوما متواصلة وخلال شهر رمضان المبارك في تحد للحرب ومواجهة ذلك بعمل جدارية إشراقة الضخمة”.
ويضيف “هذا الأمر تطلب مني البحث عن أدوات وتقنيات جديدة ونقل الفن إلى الشارع وكذلك تنفيذ مجسم ليبيا السلام الذي وصل ارتفاعه إلى 6 أمتار لتقضي عليه آخر حرب على الدواعش في صبراتة”.
ويفيدنا التشكيلي يوسف السيفاو بأن أعظم حدثين أثرا في نظرة الفن للحرب هما الحربان العالميتان، اللتان تحول فيهما الفنان من مجرد إدارة تجسد الحرب إلى إنسان يرسم بعواطفه وقلبه ومشاعره معلنا بذلك ظهور ما يعرف بالدادائية كردة فعل تجاه تلك الأحداث الكبرى.
ويستطرد السيفاو “نتيجة لذلك بدأ الوجود الإنساني داخل اللوحات في التلاشي لتحل محله أشكال تعبيرية أخرى معلنة ما يعرف بالفن التجريدي أو الحركي القائم على التفاعل ما بين الفنان وعمله بشكل منفصل عن محيطه، وهو مفهوم مناقض لمفهوم الفن القديم الذي يرى بأن الفن ما هو إلا مرآة للواقع. تطورت الأمور ودخلت الحرب في أعمال الكولاج حيث أخذ الفنانون بعض القطع الصغيرة من أدوات الحروب وعلقوها داخل لوحات فنية تكمّل عناصر اللوحة مشكّلة معها معنى جديدا. عالم الفن بكل أصنافه هو عالم بديع وجميل، يمارسه الفنان بشكل طوعي، تلح عليه في ذلك طبيعته الإنسانية التواقة إلى التعبير وكسر القيود”.
شعلة الفن
الحرب من وجهة نظر الفنان، بحسب التشكيلية سماح الشيخ، ما هي إلا أداة فنية جديدة لم يستعرف بها التاريخ، فرشاة جديدة على شكل سلاح أو قذيفة. إعادة النظر في التقنيات الفنية تجعل العمل الفني في مرحلة الحرب عملا فنيّا ذا تقنيات “حربية” لأنه وليد مرحلة صعبة.
على جانب آخر يتابع التشكيلي سالم التميمي “الحرب لها تأثير مباشر وكبير على الفن بكل تفاصيله. وكل فنان يعبر بالأسلوب الذي يناسبه؛ تعبيري أو رمزي أو واقعي. هناك فنانون ساهمت الحروب في غزارة إنتاجهم ومنحتهم البحث عن أدوات وتقنيات جديدة، مثلا استخدام بقايا ومخلفات الحروب لتقديم فن جديد بعيد عن القيم الجمالية المعروفة. العمل الفني وليد التفاعل بين الفنان والمحيط أو البيئة”.
يرى التميمي الفن وسيلة للاحتجاج. لذلك لا بد من ممارسة هذا الفن اليوم في الشارع لتزيين جدران وواجهات المنازل القديمة بأفكار الفنانين وأعمالهم وإقامة المعارض، هذه الأمور بوسعها إيصال رسالة مهمة وهي أن الفنان الليبي قادر على إحداث التغيير وتحويل أدوات القتل والقبح إلى أعمال إبداعية.
وتتفق النحاتة ميسون علي مع سالم التميمي في أن “الفن سلاحنا الوحيد لمقاومة التشوه الذي أحدثته الحرب في حياتنا. الأفكار وما تحمله من قلق وألم وأمل هي ولادة روحية واللون هو أكثر أهمية في العمل الخزفي حتى يكون هناك تناغم بين الكتلة والشكل بما أن الأفكار دائما تخضع للتطوير؛ فالأفكار المتولدة هي ناتجة عن تلقّ وتأثر وانفعال. في العمل أحيانا أستعين بالجسد الأنثوي في منجزي الخزفي بدلالات وأشكال معنفة ومشوهة”.
وتعترف سماح الشيخ بأنها في البداية لم يكن في استطاعتها الخروج من الحلقة المفرغة حتى اكتشفت أن الأفكار الفنية والحرب تشكلان علاقة عكسية. أي أنه كلما طالت واشتدت الحرب تغيرت الأفكار الفنية لتصبح أكثر بهجة ونوراً وصلحاً وحبا.
وتضيف “قناعتي الفنية هي التي تجعلني أزيّن الواقع ليصبح أقل وطأة مما هو عليه”.
وتتابع “ربما الحرب تأخذ منحنى آخر. لربما تكون قاتمة بما فيه كفاية، ولكنها ليست مثل الفن. فلوحاتي تزداد ألواناً، كلّما ازدادت الحرب وطأة، وكأن سلاحي الريشة يصبح أقوى بسبب هذه الحرب. دائماً أؤمن بأن الفن هو الوسيلة التي تفصلنا عن هذا الخراب المؤقت، تفصلنا عن أي قبح كان حتى في أنفسنا، نجمّل كل شيء به، كنت دائما أحمي نفسي بالفن. ليست مجرد مقاومة، وإنما هي وسيلة للعيش في الواقع اليومي، ملجأ (نلجأ إليه هروبا) من كل الخراب في الخارج”.
من جانبه، يقول التشكيلي يوسف السيفاو “أعتقد الكثيرون بأنه في زمن الحرب تخبو شعلة الفن وتمحى رسالته، ففي أزمنة الكوارث الكبرى التي تلم بالمجتمعات الإنسانية تتسع حرية الفنان ويتخلص من قيود عديدة كانت تكبل خياله وتحجمه”.
ويضيف “استعملت المجتمعات البدائية النقوش والرسومات البسيطة لتصوير حياتها وصراعاتها بأنماط وأشكال متعددة، وقد وثق الإنسان الأول حروبه البدائية مع القبائل المحيطة به في صراعه الأول عاكسا انتصاراته بكل ما فيها من حركة وأشخاص وجند وعتاد، كما جسد صراعه مع الحيوانات المفترسة وقوى الطبيعة قبل أن يتمكن من فهمها وترويضها واستغلالها لصالحه؛ سجلها على أسطح الكهوف التي كانت موطن سكناه مثل كهف ماغورا في بلغاريا وكهف بيمبيتكا في الهند وكهف سيرا دي كابيفارا في البرازيل”.