"بريكست" ورسائل اليمين المتطرف

بعد يوم واحد من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تم تعليق لافتة على إحدى البنايات السكنية بمنطقة نوريتش، شرق إنجلترا، تطالب اللاجئين والمهاجرين بالتحدث باللغة الإنجليزية فقط. أما من يرغب في استخدام لغته الأم فيُنصح بمغادرة المملكة المتحدة والعودة إلى بلاده.
اللافتة وُزّعت على خمسة عشر طابقا تحت عنوان “يوم خروج سعيد”، من دون أن تحمل توقيع شخص أو جهة محددة، ولكن الشرطة تعكف على إيجاد الفاعل ومحاسبته. فالمدينة، وفقا لتصريحات مجلس بلديتها، لطالما تفاخرت بتنوعها الثقافي، حالها في ذلك حال عموم المملكة المتحدة.
ينتهي الخبر في وسائل الإعلام المحلية هنا، لكن القصة بدأت للتوّ بالنسبة لجماعات اليمين المتطرف في بريطانيا. هؤلاء الذين يروْن في طلاق لندن وبروكسل مجرد خطوة على طريق تطهير البلاد من العنصر الأجنبي.
إذا كان هذا التطهير قد بدأ بالأوروبيين أصحاب البشرة البيضاء والعينين الزرقاوين والديانة المسيحية، فلا شيء يمنع من أن يكون الهدف الثاني هو اللاجئون والمهاجرون الذين ينتمون في أصولهم إلى دول تبعد كثيرا عن بريطانيا. اليمينيون يريدون هنا فقط من يدين بالولاء للملكة وينتمي إلى الإنجليزية وراثة وعقيدة ولغة.
الأرقام الرسمية تقول صراحة إن جرائم الكراهية في المملكة المتحدة تضاعفت العام الماضي وتجاوزت مئة ألف جريمة مقارنة بنحو سبعة وأربعين ألفاً عام 2013
لا يقصد في هذا تهويل تداعيات نشر مثل تلك الرسالة في نوريتش. هي بمفردها لا تدق ناقوس خطر قادم على البلاد، ولكنها جزء من صورة عامة تحتاج إلى التأمل وتستحق الاهتمام، خاصة وأن هذه الرسالة ليست الأولى التي تطلب من البريطانيين معاداة المهاجرين.
كما أن المملكة المتحدة تدخل منعطفا جديداً في تاريخها يصعد فيه ساسة اليمين بكل تدرجاته من الأكثر انفتاحا إلى الأكثر تشدداً. يكفي أن تشاهد التفاعل الشعبي في حفل الخروج مع شخصية يمينية متطرفة مثل نايجل فاراج، الرئيس السابق لحزب الاستقلال ومؤسس حزب بريكست، لتعرف أن النصر الذي يشعر به اليمينيون البريطانيون اليوم، قد يحفزهم لمعركة جديدة، عنوانها إخراج المهاجرين واللاجئين المسلمين من البلاد.
قبل عامين فقط، وتحديدا في مارس 2018، انتشرت في مدن بريطانية عدة رسائل تحمل عنوان “عاقبْ مسلماً”، أثارت خوفا كبيرا في البلاد على مدار أشهر، لكن الحكومة والأجهزة الأمنية والفعاليات المجتمعية تعاملت مع الأمر بحسن تدبير احتوى الموقف.
هناك معارضة كبيرة لمثل هذه العنصرية في المملكة المتحدة عموما، لكن هذا لا يلغي حقيقة أن هذه الرسائل كُتبت بلغة اليمين المتطرف الموجَّهة للمسلمين داخل البلاد. هذه اللغة انتشرت خلال السنوات الأخيرة بعد اعتمادها على وسائل التواصل الاجتماعي واستغلالها للنقمة الشعبية على المسلمين واللاجئين مع تزايد العمليات الإرهابية في دول القارة الأوروبية بعد ولادة تنظيم داعش في العام 2014.
منذ عام 1940 ظهر في بريطانيا أكثر من أربعين حزبا وجماعة يمينية، عشرة منها هي الأكثر تطرفا، ولدت بعد عام 2010. جميعها صوّت لصالح مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، وقاد من بقي على قيد الحياة من ساستها، حملات الخروج قبل نحو أربعة أعوام. استغلت تلك الجماعات كل مشكلة اقتصادية واجتماعية وثقافية عانت منها بريطانيا بسبب المهاجرين الأوروبيين لتنفخ فيها النار عبر الإعلام وقنوات السياسة والاقتصاد والمجتمع، لجمع أكبر عدد من الأصوات في معسكر التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
ليس بالضرورة أن الخروج كان صنيعة خالصة لليمين في بريطانيا، لكن هذا التيار، وخاصة التوجهات المتطرفة فيه، كانت له مساهمة كبيرة في طلاق لندن وبروكسل.
عندما ينجز الخروج وتبحث هذه التيارات لنفسها مجددا عن عدوّ يقتات فكرها على وجوده، فإنها لن تبعد كثيرا عن محددات واضحة، هي أن كل من يعيش على هذه الأرض، دون أصول تؤكد أنه سليل عائلة بريطانية أبا عن جد، هو هدف مشروع لها. وبالتالي لا شيء يمنع من أن تستأنف هذه التوجهات خصومتها مع المسلمين واللاجئين، التي بدأت قبل مشروع بريكست والطلاق من الاتحاد الأوروبي.
من أبرز الأحزاب اليمينية المتطرفة في المملكة المتحدة اليوم حزبا الاستقلال وبريكست. كلاهما خارج البرلمان البريطاني، لكنهما يتمتعان بحضور واضح على الساحة السياسية، على الأقل عبر الشخصية المشتركة بينهما وهو نايجل فاراج. أما أبرز الجماعات اليمينية المتشددة فهي جماعة “بريطانيا أوّلا” التي أغلق موقع فيسبوك صفحتها في 2018، بعد أن وصل عدد متابعيها لمليوني شخص، إضافة إلى جماعة “العمل الوطني” التي كانت أول جماعة يمينية تُصنّف على قائمات الإرهاب في البلاد، وقد حُظرت بعد بضعة أشهر فقط من استفتاء العام 2016.
بعد ثلاث سنوات، وتحديدا في أبريل 2019، كتبت صحيفة الإندبندنت أنّ عدّة جماعات يمينية قد نشأت على أنقاض جماعة العمل الوطني. تقول الصحيفة إن هذه الجماعات تعمل بشكل سرّي لذا يَصعبُ على السلطات ملاحقتها، لكن مختصين في شؤون التطرّف يؤكدون أن المشكلة الكبرى في التعامل مع هذه الجماعات هي في معرفتها الدقيقة بالقانون، واستغلالها لنقاط الضعف الكامنة فيه.
تستطيع هذه الجماعات معرفة الحدود الدقيقة بين حرية التعبير والتحريض على العنف. فتحشد المتطرفين وتملؤهم بالأفكار المسمومة، لتدفعهم إلى ارتكاب جرائم كراهية ضد المهاجرين واللاجئين، دون أن تسجل عليها مسؤولية قانونية، أو تعرّض نفسها للمساءلة أمام السلطات الأمنية والقضائية.
الأرقام الرسمية تقول صراحة إن جرائم الكراهية في المملكة المتحدة تضاعفت العام الماضي وتجاوزت مئة ألف جريمة مقارنة بنحو سبعة وأربعين ألفاً عام 2013. وتقول أيضا إن المسلمين هم ضحايا أكثر من نصف هذه الجرائم.
ما تبوح به رسالة نوريتش صراحة وبين السطور، هو أن الخروج كان إنجازا كبيرا لليمين في بريطانيا، وعليه ستُبنى علاقة الأحزاب والجماعات الممثلة لهذا التيار مع “الغرباء” المقيمين في البلاد ويعتبرونها وطنا عبر الولادة أو الجنسية.