تونس تتسلم من ليبيا أبناء الدواعش من دون إعداد استراتيجية ملائمة

جدل في تونس بشأن أبناء مقاتلي داعش المرحلين حيث يعتبرهم البعض ضحايا فيما يؤكد آخرون أنهم قنبلة موقوتة.
الأربعاء 2020/01/29
مصير غامض في بلد متوتر

يختلف التونسيون حول قبول أو رفض استقبال تونس لأبناء الدواعش الذي قاتلوا في صفوف التنظيم المتشدد في الخارج، لكنّ الفريقين يتفقان حول نقطة واحدة وهو أن تونس أمام تحدي إعداد أرضية موائمة لرعاية وتأهيل أيتام الجهاديين، بما تعنيه من توفير الهيئات والأجهزة الرسمية التي تشرف على عمليات المراقبة والمتابعة والتأهيل وتقديم الإحاطة النفسية والاجتماعية اللازمة إلى جانب توفير الموارد البشرية والمالية التي تساهم في إنجاح معالجة الملف.

 تونس - استقبلت تونس الأسبوع الماضي ستة من أبناء تونسيين قاتلوا في صفوف تنظيم داعش في ليبيا، وقتلوا في العام 2016 في مدينة سرت المعقل السابق للتنظيم المتشدد، في انتظار أن تتسلم بعد فترة العشرات من أيتام جهاديين وأمهاتهم إذ تبذل تونس جهودا لتحمل مسؤوليتهم تجاه هؤلاء، لكن هذه المسؤولية قد تكون تكلفتها عالية ماديا ومعنويا على البلد الذي يعاني من أزمات متراكمة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وتتطلب هذه المهمة، التي تبدو معقدة إلى حد ما، تحضير تونس لمنظومة رعاية وتأهيل تناسب خصوصية أيتام الدواعش إلى جانب ضرورة الانسجام بين أجهزتها القضائية والأمنية والاستخبارية وسرعة التفاعل فيما بينها، بالإضافة إلى تعاون من نوع خاص مع السلطات الليبية وغيرها من الدول التي توجد فيها عائلات جهاديين تونسيين.

في ليبيا حاليا، ما يزال أكثر من خمسين طفلا من أبناء دواعش تونسيين قضوا في المعارك التي استهدفت دحر التنظيم المتشدد في ليبيا، من بينهم 36 طفلا ترافقهم أمهاتهم، إذ ترتب السلطات التونسية مع نظرائها في البلد الجار لترحيل هؤلاء إلى تونس.

وقال قنصل تونس في مدينة مصراتة الليبية، توفيق القاسم، إن “54 طفلا مع أمهاتهم مازالوا عالقين في ليبيا ويجري الترتيب لترحيلهم قريبا”. وشدد، على أنه عند تسليم ستة من أبناء الدواعش إلى تونس كدفعة أولى لهؤلاء، سيتم ترحيل بقية الأطفال التونسيين وأمهاتهم وسيكون ذلك بعد التأكد من وضعياتهم القانونية وعلى إثر تقارير فريق فني تونسي للتثبت من هويات جثث الأشخاص المشتبه في حملهم للجنسية التونسية لنقلها إلى تونس لاحقا.

الأطفال الستة الذين تسلمتهم تونس الأسبوع الماضي تتراوح أعمارهم بين 3 و12 عاما وكانوا في الفترة السابقة لترحيلهم إلى تونس في مركز استقبال بمدينة مصراتة يأوي عديد الأطفال من جنسيات أخرى ويقع تحت رعاية الهلال الأحمر الليبي.

وقال محمد إقبال بن رجب، رئيس جمعية إنقاذ التونسيّين العالقين بالخارج، إن “هؤلاء الأطفال يتامى الأب والأم وسيتكفل بهم أجدادهم أو أحد أفراد عائلاتهم”. وتابع “يجب أن يخضع الأطفال لمراقبة طويلة المدى ويجب إعانتهم وإعادة إدماجهم في المدارس”.

كيف تعد الحكومة برامج رعاية اجتماعية ونفسية وتأهيل شامل لأشخاص تجهل أعدادهم وهوياتهم

ولا تملك السلطات التونسية أيّ أرقام رسمية تشير إلى العدد الحقيقي لأيتام الدواعش سواء في ليبيا أو غيرها من المناطق التي وقعت تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية أو شهدت خلال السنوات التسع الماضية نشاطا لعناصره ومن بينها سوريا والعراق.

الأرقام المتوفرة حاليا ليست سوى تقديرات من قبل المسؤولين في تونس أو كانت قد وردت في تقارير لمنظمات حقوقية تونسية أو دولية.

ففي العام 2017، قدرت السلطات في تونس أن عدد أيتام مقاتلي تنظيم داعش التونسيين في حدود 43 طفلا وبعد التأكد من هويات ثلاثة منهم تسلمتهم في العام ذاته.

والأسبوع الماضي، كشف قنصل تونس العام في ليبيا أن عدد أبناء الدواعش في ليبيا يبلغ 60 طفلا تسلمت منهم تونس ستة فيما يزال البقية عالقين في البلد الغارق في فوضى الصراع على الشرعية والسلطة.

وتبرز هذه المعطيات أن أولى التحديات التي تواجه السلطات التونسية فيما يتعلق بمعالجة ملف أبناء الجهاديين التونسيين الذين قتلوا في المعارك التي استهدفت المجموعات المتشددة في عدد من الدول العربية، تكمن في كيفية بناء منظومة قضائية وأمنية وإعداد برامج رعاية اجتماعية ونفسية وتأهيل شامل لأشخاص تجهل أعدادهم الحقيقية وهوياتهم؟ وكيف ستتمكن من تحديد حجم الموارد البشرية والمالية اللازمة لمعالجة هذا الملف وتقديم الرعاية التي يحتاجها أطفال في وضع بمثل هذه الحساسية؟

تعقيدات كثيرة ترافق ملف تسلم واستعادة تونس لأبناء الدواعش تبدأ بالحدود التي يقف عندها التعاون القضائي مع السلطات الليبية، أو بـ”ضعفه” مثلما يقول مقربون وأوساط سياسية وحقوقية مطلعة على الملف وقريبة من الفرق الرسمية التي تتولى المهمة، ولا تنتهي بالوضع الأمني المضطرب في ليبيا.

ليتا تايلر: من الضروري توفير خدمات إعادة تأهيل وإدماج هؤلاء المواطنين
ليتا تايلر: من الضروري توفير خدمات إعادة تأهيل وإدماج هؤلاء المواطنين

والتحدي الأبرز أمام تفكيك هذه التعقيدات يبرز جليا في ظل انقسام البلد الجار بين قوتين رئيسيتين تتنازعان على الشرعية ولا تعترف أيّ منهما بالأخرى: إحداهما ممثلة في حكومة الوفاق التي تعمل من العاصمة طرابلس غرب البلاد وتحظى باعتراف دولي، والثانية في الشرق وتفتقد الاعتراف الدولي المعلن لكنها في موضع أكثر قوة إذ أنها ممثلة في البرلمان والحكومة المنبثقة عنه إلى جانب دعمها الكبير ومساندتها من طرف قوات الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر والتي تبسط نفوذها على كامل شرق البلاد تقريبا وبعض المناطق في الغرب وتحاصر الميليشيات الإسلامية في طرابلس.

لكل هذه الأسباب تجد الحكومة التونسية نفسها عاجزة أحيانا أمام اتخاذ قرار استعادة أيتام الدواعش وتجد نفسها مترددة في مواقف أخرى بسبب صعوبة تحديد هويات هؤلاء الأطفال، وهو الوضع الذي يجعلها تتخذ الحذر الشديد نهجا في تعاملها مع القضية على غرار دول أخرى سافر مواطنوها للقتال في صفوف داعش قبل سنوات وتركوا عائلاتهم في غياهب المصير المجهول بعد مقتلهم.

وكان محمد إقبال بن رجب، رئيس جمعية التونسيين العالقين بالخارج، قد قال سابقا إن “الدولة التونسية ليست لديها استراتيجية للتكفل بالأطفال المضطربين والذين تتراوح أعمارهم بين أربع وست سنوات”.

ولكل هذه الأسباب أيضا يفتح الملف باب نقاش واسع في تونس لا يمكن غلقه بمجرد نشر خبر تسلم تونس لأطفال عناصر داعش.

وتتضارب المواقف في تونس حول تسلم أيتام الجهاديين، وهو الجدل الذي عاد ليطفو على السطح الأسبوع الماضي عندما نشرت صفحات رئاسة الجمهورية على مواقع التواصل الاجتماعي صورا للرئيس قيس سعيد خلال استقباله للأيتام الستة الذين تم ترحيلهم من ليبيا.

وذكر بيان صادر عن الرئاسة التونسيّة أن الرئيس سعيد شدد على “أهمية الإسراع باتخاذ كافة التدابير والإجراءات الضرورية” لتوفير “الإحاطة النفسيّة والرعاية الصحّية لهؤلاء الأطفال قبل تسليمهم إلى عائلاتهم”.

وأكد سعيد على ضرورة الاهتمام بهذا الملف من “أجل تيسير عودة بقية الأطفال العالقين في ليبيا” والذين لم يُحدّد بيان الرئاسة عددهم.

وكانت عودة الأطفال العالقين في ليبيا “محل عناية خاصة ومتابعة دقيقة” من الرئيس سعيد وأحد أبرز محاور لقائه برئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فائز السراج خلال زيارته تونس في الـ10 من ديسمبر الماضي، وفق البيان الذي أكد أنه تم الاتفاق خلال اللقاء على تأمين عودة الأطفال إلى عائلاتهم في تونس.

وهاجم تونسيون على شبكات التواصل مؤسسة رئاسة الجمهورية وشخص الرئيس سعيد وقالوا إنه انحاز لأبناء الدواعش على حساب الاهتمام بأبناء شهداء المؤسستين الأمنية والعسكرية الذي كانوا ضحية لهجمات جهادية.

ويقول هؤلاء إن تونس عاجزة في الظرف الحالي عن تأمين إحاطة مناسبة للوضع الحساس لأيتام الدواعش بسبب ما تمر به من صعوبات اقتصادية واجتماعية وعدم توفر الهيئات والأجهزة الرسمية التي تستطيع أن تتكفل بتأمين متابعة لصيقة لعملية إدماج أبناء مقاتلي داعش في المجتمع التونسي ومعالجة  احتمالات تأثر البعض منهم للفكر الجهادي لاسيما من هم في مرحلة عمرية حساسة أو تأثروا بحياة آبائهم وتجاربهم.

وسعت جمعية إنقاذ التونسيين العالقين بالخارج للاتصال بالمندوب العام للطفولة فور وصول الأطفال الستة من ليبيا للحصول على توضيحات بشأن البرامج التي تم إعدادها لرعايتهم، لكن بن رجب أكد لـ”العرب” أن جمعيته لم تتلقّ أيّ صدى لندائها.

محمد إقبال بن رجب: الدولة التونسية ليست لديها استراتيجية للتكفل بالأطفال المضطربين والذين تتراوح أعمارهم بين أربع وست سنوات
محمد إقبال بن رجب: الدولة التونسية ليست لديها استراتيجية للتكفل بالأطفال المضطربين والذين تتراوح أعمارهم بين أربع وست سنوات

وقال “نحن حاليا باتصال مع العائلة ونتابع كل التطورات المتعلقة بالأطفال التونسيين العالقين في ليبيا. لكننا لم نجد استجابة” من قبل جهاز مندوب  الطفولة المسؤول عن أوضاع هذه الفئة.

وأوضح بن رجب أنه “في السابق كنا قد استفسرنا بشأن استراتيجية تونس فيما يتعلق باستقبال أبناء مقاتلي داعش. لا يوجد أيّ برنامج خاص بهؤلاء الأطفال”، منددا بما وصفه “عدم تعاون الدولة التونسية” في هذا الملف خاصة الوزارات المعنية مباشرة بقضايا الطفولة وعلى رأسها وزارتا المرأة والشؤون الاجتماعية.

وأعربت الجمعية عن استعدادها لتقديم الدعم اللازم والمعونة التي تحتاجها السلطات التونسية في سياق رعايتها للأطفال الذين يؤكد بن رجب أنهم من “ضحايا الإرهاب”.

وأفاد بن رجب بأن الأطفال الستة حاليا في “حضن عائلاتهم في تونس”، محذرا من مسألة أن البعض لا يعرفون كيف يتعاملون مع الأطفال.

لكنّ تونسيين آخرين أشادوا بجهود تونس المبذولة في سبيل عدم ترك أطفال يتامى يواجهون مصيرا مجهولا في بلد يعيش تصعيدا متواصلا للتوتر، بغض النظر عمّن يكونون والجرائم التي اقترفها آباءهم هناك.

من يطالبون بإعادة أيتام الجهاديين ويدعمون ترحيلهم إلى تونس، اعتبروا أن الحكومة تصرفت وفق ما تمليه عليها واجباتها والتزاماتها من تحمل لمسؤولية أيّ تونسي وتقديم الرعاية التي  يحتاجها مهما كانت هويته.

ويعتبر هؤلاء أن أيتام الدواعش مجرد أطفال لا ذنب لهم لأنهم ولدوا لأشخاص انظموا إلى تنظيم داعش وتبنوا أفكاره وساروا على نهجه، كما أنهم لا يتحملون وزر الجرائم وكل الأعمال التي اقترفها آباءهم.

هذا الدعم، لم يخل من انتقادات للحكومة فبعض التونسيين يرون أن تونس تماطل كثيرا في حسم هذا الملف واستنكروا تعقيد الإجراءات وبطء الحكومة في معالجة مسألة تسلم الأطفال ما جعل الكثير منهم عالقين في مراكز إيواء في ليبيا.

ووفق ليتا تايلر، الباحثة في الأزمات والنزاعات في منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن “المخاوف الأمنية المشروعة لا تبرّر تخلي الحكومات عن الأطفال والمواطنين الآخرين المحتجزين في معسكرات وسجون بائسة في الخارج (…) لا أمل لهم في الخروج من هناك وحكومتهم لم تُقدّم أي مساعدة تُذكر”.

كما شددت على ضرورة توفير خدمات إعادة تأهيل وإدماج هؤلاء المواطنين. وقالت “يجب معاملة الأطفال في المقام الأول على أنهم ضحايا”.

وكانت “هيومن رايتس ووتش” قد اعتبرت في السباق أن جهود الحكومة التونسية لترحيل أبناء الدواعش من ليبيا “بطيئة”، واتهمتها بـ”التقاعس” في استعادة أطفال وأمهات محتجزين في سجون عربية ومن بينها سوريا والعراق.

مخاوف كثيرة
مخاوف كثيرة

وذكر بيان للمنظمة، العام الماضي، “المسؤولون التونسيون يتقاعسون في إعادة أطفال تونسيين محتجزين دون تُهم في معسكرات وسجون أجنبية”، موضحا أن الأطفال “هم أبناء إرهابيين تونسيين ينتمون لتنظيم داعش”.

وقالت “هيومن رايتس ووتش” إنها “لم تجد أيّ أدلة على رفض تونس استقبال مواطنيها على الحدود، إلا أن أغلب المحتجزين أو كلهم ليس أمامهم أي طريقة لمغادرة المعسكرات والسجون الموصدة للوصول إلى القنصليات والحدود التونسية، إلا بتدخل من الحكومة”.

وطالبت المنظمة تونس بـ”ضمان استرجاع سريع وآمن، للأطفال المحتجزين في الخارج فقط لأنهم من أبناء وبنات أعضاء مزعومين أو مؤكدين في داعش، ما لم يكونوا يخشون تعرضهم إلى سوء المعاملة عند العودة”.

وقدرت المنظمة، في تقرير سابق، أن أعداد الأطفال التونسيين المحتجزين تصل إلى نحو 200 طفل.

12