منير عبدالنور: ثورة 30 يونيو أنهت الحكم الديني في مصر

لا يكاد يذكر العالم العربي إلا مرادفا لظواهر التعصب والانغلاق والتشدد، وهي سمات تغذت من إرث ديني وحضاري يرفض التعدد والاختلاف تزاوج مع استبداد سياسي هيمن لفترات طويلة، ما جعل الكثير من المهتمين والدارسين يعتبرون أن شرط بناء مستقبل للعالم العربي مرهون بقدرته على استئصال أورام التعصب. واحد ممن يتبنون هذه الرؤية هو منير فخري عبدالنور، الوزير المصري الأسبق والمثقف المعروف الذي كشف في حواره لـ”العرب” أن نمو الأصولية وتعاظمها يرجعان إلى ثقافة الرأي والموقف الواحد الذي رسخته أنظمة مستبدة بعد التحرر من الاستعمار، لافتا إلى أن شيوع الفوضى والحروب في بعض الأقطار العربية إثر ما عرف بثورات الربيع العربي هو من نتائج غلبة التعصب، مشيدا في المقابل بمساعي الانفتاح والتحديث والتطوير التي تقوم بها كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ما يثير التفاؤل بشأن فرص التغيير في المنطقة العربية.
بات مستقبل العالم العربي حضاريا مرهونا بقدرته على استئصال أورام التعصب، وسحقها ومحو آثارها مجتمعيا لميلاد أجيال جديدة قادرة على صناعة الحداثة والنهضة.
وتعد ظاهرة التعصب في المجتمعات العربية قديمة وراسخة حتى أضحت محفورة في عقولنا، وحقولنا الحياتية، وهي نتاج نصف قرن من تسلط أنظمة تسلمت العالم العربي من الاستعمار، وبنت دولا متوحشة قائمة على الدكتاتورية التي صادرت كل شيء، وانتهى بها الحال إلى وقائع درامية استغلتها التيارات الدينية في الاقتراب من السلطة، مُستفيدة من مناخ الإقصاء المحيط، ومستثمرة الأحادية المتسيدة في اختطاف الشارع.
يرى البعض من الليبراليين العرب أن تنامي ظاهرة الأصولية في العالم العربي جاء كرد فعل طبيعي على إخفاقات النظم الوطنية المحتكرة للسلطة، حيث مارست قمعا فكريا وقهرا ممنهجا ساهما في تسيد الفكر المتشدد ورفض الآخر، ما جعل التربة مهيأة لزرع التطرف والإرهاب كي ينموا وينتعشا.
واحد من هؤلاء هو منير فخري عبدالنور، السياسي والليبرالي والوزير المصري الأسبق والمثقف المعروف الذي يؤمن بأن نمو الأصولية وتعاظمها يرجعان إلى ثقافة الرأي والتصور والموقف الواحد الذي رسخته أنظمة مستبدة بعد التحرر من الاستعمار.
التقت “العرب” فخري عبدالنور بمكتبه المطل على شارع طلعت حرب بجوار ميدان التحرير في وسط القاهرة، لمناقشة تصوراته بشأن مستقبل الليبرالية في المجتمعات العربية، وبدا منفعلا مع الأخطار المحدقة بالمنطقة، ومتفائلا بموجات التحديث المجتمعي في عدد من الدول العربية.
دار الحوار على مدى ساعتين، وما يلفت الانتباه لأول وهلة أن مكتب الرجل مزدحم بخرائط عديدة معلقة على الجدران؛ لمصر عبر مراحل تاريخية متعددة، ولحوض النيل وأفريقيا، والشرق الأوسط، ما دفعنا لسؤاله عن تلك الخرائط، فذكر أنها هواية صاحبته منذ الطفولة، حيث عشق الجغرافيا واهتم بجمع الخرائط القديمة.
التعصب يعرقل التنمية
استأثر الحديث حول المشهد السياسي العام في مصر بمجمل الحوار، وكمتابع لتفاصيل ما يحدث في بلاده حذر الوزير المصري من عواقب إغفال الاهتمام بجماعة الإخوان باعتبار أن السلوك المهادن الذي تتبعه الجماعة مرحليا لا يثير الاطمئنان، لافتا إلى كونها تمثل خطرا دائما يتهدد استقرار مصر.
وقال عبدالنور، لـ”العرب”، إن جماعات الإسلام السياسي سوف تبقى خطرا يعترض التنمية والتحضر والتطور في العالم العربي ما دامت الثقافة السائدة قوامها التعصب ورفض الفكر المختلف وعدم التسامح تجاه الآخر.
وأضاف “يبقى الخطر داهما ومتناميا مادمنا غير قادرين على توسيع مدارك حرية التعبير وقبول الآخر والعمل بجد على فتح الأبواب والنوافذ للمزيد من الحريات”.
ومنير فخري عبدالنور سليل عائلة قبطية عملت بالسياسة منذ بدايات القرن العشرين، وكان جده فخري عبدالنور، أحد رفاق سعد باشا زغلول في ثورة 1919.
ولد عبدالنور في أغسطس سنة 1945 ودرس الإحصاء بجامعة القاهرة، وحصل على ماجستير في العلوم الاقتصادية من الجامعة الأميركية بالقاهرة، وعمل في مجال الصناعة والتجارة والبنوك عدة سنوات، قبل أن ينضم إلى حزب الوفد الجديد في منتصف التسعينات، وفاز منير عبدالنور بعضوية البرلمان المصري في الفترة من 2000 إلى 2005 عندما ترشح لإحدى دوائر القاهرة متقدما على مرشح الحكومة.
كان أحد الداعمين للشباب في ثورة يناير 2011، وأسهم في تشكيل جبهة الإنقاذ لمواجهة خطر الإخوان بعد ذلك، تمهيدا لانتفاضة 30 يونيو 2013، وشغل مرتين مقعدا في الوزارة، الأولى في الفترة من فبراير 2011 وحتى أغسطس 2012 حيث تولى منصب وزير السياحة، ثم استقال فور تولي الإخواني محمد مرسي منصب رئيس الجمهورية، والفترة الثانية بعد سقوط حكم الجماعة من يوليو 2013 إلى سبتمبر 2015، وتولى منصب وزير التجارة والصناعة.
وأشار عبدالنور في حواره إلى أن ثقافة التعصب ما زالت متغلغلة في ربوع المجتمعات العربية وهي المسؤولة عن تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإرهاب والحروب الأهلية التي تحدث في عدة أقطار.
وحسب تصوره، فإن ما يعرف بثورات الربيع العربي ليست السبب المباشر في شيوع الفوضى في بعض الأقطار، وإنما غلبة التعصب على تلك البلدان جعلتها لقمة سائغة للصراعات بعد سقوط الأنظمة الحاكمة التي لم تستند يوما إلى شعبية حقيقية.
وأكد أنه يؤمن بأن ثقافة التعصب سمة من سمات التخلف، فهناك فارق كبير بين الالتزام أو التدين وبين التعصب، ويمكن لأي شخص أن يكون ملتزما بوطنيته ومفتخرا بانتمائه لبلده، لكن لا ينبغي أن يحمل في طياته عداء وكراهية للآخرين. بنفس المنطق، فإن لكل فرد الحق في محبة عقيدته الدينية والفخر بها، لكن لا ينبغي أن يتحول إلى اعتداء أو تكفير أو صب اللعنات على صاحب العقيدة المختلفة.
وتابع السياسي المصري بنبرة حزن حديثه قائلا “لا يصح أن نسمع كل جمعة خطباء المساجد في بلادنا وهم يدعون بالهلاك والخراب على النصارى واليهود، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا”. لكن الأدهى أن ثقافة التعصب تمددت وتفشت بصورة لافتة في الكثير من المجتمعات العربية، وتشعبت حتى تجاوزت الدين لنجد تعصبا وطنيا، وأيديولوجيا، وكرويا، لا يتناسب مع معطيات العصر.
وحول أوضاع الأقباط في مصر، قال عبدالنور إنها تحسنت بلا شك بعد الثورتين بشكل كبير، وليس أدل على ذلك من تبني الحكومة لإصلاح الكنائس والسماح ببنائها والتجاوب مع مطالب الأقباط من جانب الحكومة، لكن لا يزال الوضع غير مُرضٍ مجتمعيا، لأن التعصب موجود في بعض المناطق، ما يمثل تمييزا غير رسمي.
وأوضح أن الحكومة تؤسس مشروعا لتجديد الخطاب الديني ونشر ثقافة التسامح والاهتمام بالتعليم، وهو مشروع طويل يتطلب الجدية والإرادة المخلصة لإنجاحه.
وتعني الجدية في نظره استخدام الآليات المتاحة في غرس قيم المواطنة بشكل أمثل، ما يدفع إلى الحديث عن سبب إهمال قصور الثقافة وتراخي المؤسسات الإعلامية التي أنفقت عليها أموال طائلة في نشر الوعي والتسامح، والقدرة على الحوار وقبول الآخر واحترام المرأة وانتعاش الفنون والآداب، ما يدفع إلى إعادة الحسابات ومراجعة ما مضى وممارسة الجدية في التعامل مع ثقافة التعصب السائدة.
نماذج مثيرة للتفاؤل
رغم الصورة الموجعة للتعصب في مجتمعاتنا، إلا أن الرجل متفائل بالمستقبل في ظل موجات تحديث مجتمعية شديدة التسارع تحاول غرس قيم التسامح والوسطية وتهتم بتعليم الإنسان وتثقيفه بدأت في بعض دول المشرق العربي.
وأوضح أن تلك الموجات تمثل باكورة تعطش فئات عديدة من الشعوب العربية لتحديث مجتمعي حقيقي يصاحبه إرساء للعلمانية وفصل الدين عن السياسة، ما يثير التفاؤل بشأن فرص التغيير المواتية.
وشدد الوزير المصري الأسبق في حواره على أن ما يحدث في دولة الإمارات العربية المتحدة مثلا من انفتاح على العالم وقبول للآخر وتطلع إلى المستقبل واهتمام بالتعليم وتعاون مع الدول الأكثر علما للاستفادة منها تقنيا وحضاريا، يؤدي في النهاية إلى موجة تحديث عظيمة، لا تلبث أن تتسع تأثيراتها في باقي الدول العربية.
ولفت إلى أن قيم التسامح تسود دائما في المجتمعات الماضية في طريق التطور وليس أدل على ذلك من وجود أعداد كبيرة من الهنود من أصحاب المعتقدات الأخرى والسماح لهم بممارسة معتقداتهم في حرية في إطار من النظام العام والقانون.
وأضاف أن ما يشهده المجتمع السعودي من تطور وانفتاح وحرية يجد ترحيبا واسعا لدى الشباب، ويؤكد أن المجتمعات العربية يمكن تطويرها وتحديثها بعيدا عن النظرة التقليدية القديمة. معتبرا أن إصلاحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تتماشى مع توجهات شباب تعلم معظمه في العالم الغربي، وانفتح كله على الحضارة الغربية بفضل التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصالات، لأن الإصلاحات الفوقية تحقق نتائج أفضل عندما تتوافق مع طموحات الشباب، وهو ما كان غائبا لدى دول الربيع العربي.
وتوقع أن تتجه موجات التحديث الجارية إلى دول عربية عديدة بفضل احتكاكات العمل، فكما انتقل التشدد السلفي من السعودية إلى مصر وشمال أفريقيا عبر العاملين هناك، فإنه بنفس القدر يمكن لقيم التسامح واحترام المرأة والتحرر الثقافي والفكري أن تنتقل بعد نضجها مجتمعيا إلى باقي الأقطار العربية.
وأكد عبدالنور، أن ثورات الربيع العربي لم تنجح لأن النظم السياسية التي كانت سائدة لم تفتح الطريق أمام القوى السياسية المدنية بحرية، ما جعل القوى الدينية تتوغل عبر المساجد ومؤسسات المجتمع التحتية في القرى والنجوع.
وأشار إلى أن موت السياسة أدى إلى انجذاب الناس إلى الخطاب الديني العاطفي، ودفع قوى الإسلام السياسي إلى ركوب موجة الثورات وفرض إرادتها على النظم الحاكمة وكأنها صاحبة الثورة.
مكاسب 25 يناير
قال السياسي المصري المخضرم، إنه غير نادم على تأييده لـ25 يناير، لأنه شعر بأن البلاد تحررت من فساد عتيد والشباب نجح في التعبير عن رؤاه وتصوراته بشكل مغاير للنمط المعتاد، ما يؤكد أن مصر ما زالت تنبض حياة بوجدانها وروحها وضميرها.
وأوضح أن حماس الشباب في تلك الأيام لم يره من قبل، لكنه كان أساسا يرتب لحماس تال في 30 يونيو 2013 بعد اختطاف الأصوليين للحكم، ما يعني أنه كان إرهاصا لاستيقاظ روح الشعب الغائب طوال ثلاثة عقود.
ولفت عبدالنور إلى أن أكثر ما أجج حماسه هو ما جرى في المجتمع القبطي في مصر، فقبل عام 2011 كان هذا المجتمع خامدا ولا مباليا وواقعا تحت سيطرة الكنيسة ورجال الدين، لكنه تحول إلى صاحب إرادة حرة وله صوته واهتماماته كجزء من النسيج المصري أولا وليس كجزء من المحيط القبطي.
وفي استحضار لتلك الفترة وما رافقها من اختطاف جماعة الإخوان للحراك الشعبي في مصر اعتبر عبدالنور أنه تفاجأ فقط بالسرعة التي جرى بها الأمر، وبكم العنف الذي استجلبته الجماعة معها للبلاد، فيما اعترف أنه توقع هيمنة الإخوان على المشهد العام بالنظر إلى قدرتهم على الحشد، وسيطرتهم على المساجد، لافتا إلى أنه “كنا نأمل في غد أفضل ونراهن على وسطية ووعي للأسف كانا غائبين لدى الناس، فقطعا كان التردي التعليمي والثقافي عميقا إلى درجة جعلت استقراء الأمور صعبا، لكن على أيّ حال ثار الناس في مصر وأنهوا الحكم الديني وصححوا للحراك مساره”.
وفي اعتقاده أن هناك وسيلتين للتغيير المجتمعي، إما التطور الداخلي القائم على تلاقي تطلعات الشباب مع النظم الحاكمة مثلما يحدث في السعودية، وإما الثورات أو الانتفاضات الشعبية، وليس هناك شك في أن الوسيلة الأولى أفضل وأنجع وأكثر أمنا.
وأضاف “للأسف فإن مصر خلال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، مع تعاطفي واحترامي للإنسان، وصلت إلى مرحلة انغلاق شديد في الأفق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وجاء في وقت تتسع فيه مساحات التعبير حتما بفضل التكنولوجيا الحديثة، وكان من المنطقي أن ينتهي الأمر بانفجار”.
ورأى عبدالنور، أن التجربة المصرية تواجه تحديات حقيقية في طريق الديمقراطية، بسبب الأخطار الاستثنائية المحيطة بالبلاد من كل جانب، من ناحية الجنوب في ما يخص أزمة سد النهضة الإثيوبي، أو من الغرب نتاج ميليشيات الإرهاب المتواجدة على الأراضي الليبية، أو حتى الشرق عن طريق تسلل الإرهابيين عبر سيناء، وكل هذا يؤجل الحلم الديمقراطي، ويجعل استمرار الطوارئ ضرورة تقيد حرية التعبير.
ونبّه عبدالنور إلى أن مواجهة الإرهاب الديني قد تدفع السلطة القائمة إلى اتخاذ إجراءات استثنائية تمثل خصما من الحريات العامة، وشهدنا ذلك في مصر خلال الخمسينات، والسماح للقوى الليبرالية والمدنية بأن تعمل بحرية هو أفضل مقاومة لفكر الإخوان والجماعات المتشددة الذي يتوغل على مستويات غير ظاهرة.
وكان اتحاد القوى المدنية في ثورة 30 يونيو أمام المشروع الإخواني أقوى وأكثر فاعلية في تقويضه، وذلك بالتعاون مع المؤسسة العسكرية، إذ خرج الملايين من المصريين وأعلنوا رفضهم لجماعة الإخوان وللأصولية الانتهازية.
وكشف منير عبدالنور في ختام حديثه أنه تمنى بقاء التيارات المدنية موحدة بعد 30 يونيو، لأن تفكيكها لا يصب في صالح المجتمع والدولة المصرية.