ثريا البقصمي توزع العالم بين رسومها وقصصها

الكاتبة والرسامة الكويتية بالرغم من احترافها فإنها لم تتخذ من العملين مهنة لها، حيث كتبت بشكل منتظم ورسمت بالطريقة نفسها وكانت دائما حرة ومستقلة في خياراتها الإبداعية.
الأحد 2020/01/12
رسامة حكايات

كاتبة ورسامة في الوقت نفسه. مَن منهما سبقت الأخرى؟ ليس مهمّا التكهن. بالنسبة لثريا البقصمي فإنها قامت في وقت مبكر من عمرها بتوزيع شخصيتها بين الرسم والكتابة بالشغف نفسه والعاطفة نفسها. فهي ليست رسامة قررت في وقت متأخر أن تكتب وهي ليست كاتبة أحبت أن تمارس الرسم نوعا من الهواية الجانبية.

مَن يرى لوحاتها لا بد أن يعاملها باعتبارها رسامة محترفة. ومَن يقرأ قصصها وأشعارها ونصوصها لا يمكنه أن يتذكر أنها الشخص نفسه الذي يرسم. الرسامة والكاتبة تقيمان في الشخص نفسه غير أنهما لا تمتزجتان. فلكل واحدة منهما طباعها وعاداتها وأفكارها ونسيج حياتها. لقد امتلكت كلّ واحدة منهما جناحا تطير به مثلما توزعتا بين الليل والنهار. “النهار للرسامة والليل للكاتبة” هذا ما تقوله.

صنعت زمنها الخاص

ربما نجحت البقصمي في الفصل بين شخصيتيها من غير أن يحدث أي نزاع من شأنه أن يستنزف طاقتها، لأن ذلك الفصل وقع مبكرا في حياتها فصار طبيعيا بالنسبة لها أن تكون رسامة وكاتبة في الوقت نفسه. صار طبيعيا ألا تسأل نفسها “هل هي الرسامة أم الكاتبة؟”.

ميزة البقصمي أنها بالرغم من احترافها وهو ما يؤكده سلوكها اليومي فإنها لم تتخذ من العملين مهنة لها. كتبت بشكل منتظم ورسمت بالطريقة نفسها غير أنها كانت دائما حرة ومستقلة في خياراتها الإبداعية.

الرسامة والكاتبة تقيمان في الشخص نفسه غير أنهما لا تمتزجتان. فلكل واحدة منهما طباعها وعاداتها وأفكارها ونسيج حياتها. لقد امتلكت كل واحدة منهما جناحا تطير به مثلما توزعتا بين الليل والنهار

وهو ما جعلها قادرة على أن تكون الإنسان الذي تحب والفنانة التي حلمت في أن تكونها. فهي على سبيل المثال مرحة في الرسم، جادة في الكتابة. ليس هناك تناقض يحرجها. فتحت السطح التصويري هناك دائما تجربة حياة هي صدى لذلك الانسجام الكوني الذي تعرفت عليه الفنانة عبر سنوات غربتها الطويلة.   

لقد عاشت البقصمي زمنها الخاص الذي اخترعته بنفسها. وهو ما جعلها ترسم وتكتب بطريقة خاصة لا تمت بصلة إلى ما كان يجري من وقائع ثقافية.

رسومها هي التي تكشف عن انفصالها عن الثقافة المحلية أكثر مما تفعل القصص والأشعار والكتابات النقدية. ربما تفهم رسومها خطأ من جهة كونها رسوما توضيحية، ذلك لأنها توحي بالحكاية من غير أن تدخل في تفاصيلها. كل ذلك لا يُعد بالنسبة للرسامة إلا كلاما فائضا. ذلك لأنها لا تنطلق في رسومها من نص مكتوب بل من فكرة متخيلة. وهي فكرة تظل محلقة مثل الأشكال التي تُنتج عنها. البقصمي رسامة حكايات ناقصة.    

ولدت عام 1952 في الكويت. درست الرسم في القاهرة، وحصلت على شهادة الماجستير بعد أن درست فن الحفر الطباعي في أكاديمة الفنون “سيركوف” بموسكو. تعلمت من خلال دورات حرة في داكار بالسنغال فن الطباعة على الحرير، قبل أن تنتقل إلى لندن لتدرس فن الحفر الطباعي، حين عادت إلى الكويت ساهمت في تأسيس جماعة أصدقاء الفن التشكيلي لدول مجلس التعاون وشاركت في كل معارضها.  أقامت أول معرض شخصي عام 1971 في الكويت. ولأنها عاشت زمنا طويلا مسافرة فقد أقامت معرضا في زائير وفي السنغال وفي مونتيرو في سويسرا. أما “علامات فارقة” هو عنوان المعرض الاستعادي الذي أقامته في متحف الشارقة للفنون عام 2017.

مرحة في الرسم جادة في الكتابة
مرحة في الرسم جادة في الكتابة

أصدرت أكثر من عشرة كتب تتوزع بين القصص القصيرة والشعر والنقد الفني. منها “العرق الأسود”، “السدرة”، “دموع السراديب”، “رحيل النوافذ”، “امرأة مكهربة”، “سمكة تقود دراجة”، و”خواتيم النسيان”. كما تُرجم كتابها الشعري “في كفي عصفور” إلى الإسبانية ونال جائزة. 

وفي وقت مبكّر من حياتها نالت البقصمي جائزة باعتبارها كاتبة قصة وبالتزامن مع ذلك حصلت على ميدالية برونزية باعتبارها رسامة. فعملت في الصحافة كاتبة ورسامة وكانت تنتقل بخفة وثقة بين المهنتين.

انعكس توزع البقصمي الإبداعي بين الكتابة والرسم بطريقة إيجابية على تجربتها الفنية. فإن كانت ترسم وجها، فإن ذلك الوجه لا بد أن يوحي بحكاية تقف وراء تأثيره التعبيري.

لم تكن الحكاية هي الهدف في رسومها بقدر ما كانت خلفية لواقعة بصرية، تنقل متعة النظر إليها مشاهدها إلى أجواء حلمية، يمتزج فيها الخيال بالواقع. فالكائنات التي ترسمها البقصمي لا تحتاج إلى أن تسرد حكاياتها، ذلك لأن كل مشاهد يمكن أن يستحضر حكاية، يروي من خلالها ما يعتقده ملائما لما فكرت فيه الرسامة. لكل مشاهد حكايته.

شرقية المزاج

فنانة تراهن على المزاج
فنانة تراهن على المزاج

تذكر بعض رسوم البقصمي برسوم الروسي مارك شاغال. فالرسامة تستخرج من الحكايات الشعبية كائناتها الخرافية. كائنات تشبهنا، غير أنها ترتدي ثياب كائنات طائرة. غير أن المرء سرعان ما ينسى ما تذكره في النظرة الأولى. فالبقصمي شرقية، لكن بطريقة مختلفة.

وإذا ما عرفنا أن الفنانة أقامت أكثر من ستين معرضا، يمكننا أن نتخيل قدرتها على أن تنتقل بين الأفكار والمفردات التصويرية بطريقة أكسبتها قوة هي مصدر تلك السيطرة على موضوعاتها التي تميزت بالسعة. غزارة الإنتاج الفني لم يرافقها نوع من التكرار الممل. كان هناك غنى داخلي في المادة التي كانت البقصمي تعمل عليها. فهي وإن عملت على موضوع واحد أحيانا فإنها لا تنتج أعمالا تتشابه. ما يتشابه أو يتكرر هو أسلوب الفنانة في المعالجة وطريقتها في النظر إلى كائناتها. شرقيتها لا تخطئها العين. تلك صفة تُحسب لها.

ليست الموضوعات هي السبب الذي يقف وراء ذلك الاستنتاج بل المعالجة التي تفصح عن طريقة خاصة في التفكير الفني. ولأن ثريا تعرف ما الذي تفعله بسبب عمق ثقافتها فإنها تدرك أن كل شيء في النهاية يكشف عن مرجعياته وأصوله. وهو ما كان واضحا في رسومها. تعرف أن الموضوعات لا تصنع هوية الفنان وتعرف أيضا أن كل ما نستعمله من تقنيات يعود إلى مصادر أوروبية. غير أنها تراهن على المزاج. وكما أرى فإن الفنانة ربحت رهانها المغامر. إذ صنع المزاج عالما شرقيا يخفي الكثير من حقائق حزنه تحت قناع من المرح.

ابنة تجربتها في الأسفار

كائنات البقصمي لا تحتاج إلى أن تسرد حكاياتها
كائنات البقصمي لا تحتاج إلى أن تسرد حكاياتها

بالرغم من ولعها بالحكايات الشعبية، غير أن البقصمي لم تلجأ إلى استعارة مفردات الفن الشعبي لتشير من خلالها إلى هويتها المحلية. صحيح أنها كانت أحيانا تصنع لوحات ذات طابع زخرفي غير منظم، غير أنها تبتكر مفردات تلك الزخارف مستلهمة عناصر فنية تبدو كما لو أنها تخلص إلى إيقاعها. في تلك اللوحات تبدو قريبة من أجواء الفرنسي هنري ماتيس. ومن الغريب فعلا أن البقصمي بالرغم من عدم إلحاحها على مسألة الهوية الفنية فإن رسومها تبدو ذات طابع شرقي وهو ما يؤكد أن صواب النظرية التي تقول بأن الهوية لا تُخترع بل هي تنبعث تلقائيا من أصالة العمل الفني.

لقد تأثرت البقصمي بحكم إقامتها الطويلة في روسيا بالفن الروسي غير أن سفرها الدائم جعلها تتخلص من ذلك التأثير. حينها تعلمت أن تخلص إلى ذاتها، التي هي مزيج مما تعلمته وتربت عليه وأحبته وحلمت في أن تكونه.

ثريا البقصمي هي ابنة تجربتها في الأسفار. مرجعياتها لا يمكن حصرها في الأعمال الفنية التي رأتها. ذلك لأن حياتها الشخصية وهبتها الكثير من الحيل الفنية التي استطاعت من خلالها أن تتعرف على نفسها.

مزج الخيال بالواقع

 

9