تقنيات الرواية بين الغرب والشرق

الروائي العربي مطالب بخلق مناخ نفسي يُشْعر القارئ بأن عمله امتداد لملاحم لا تزال حيّة في الذاكرة.
الجمعة 2020/01/10
لوحة سهير السباعي

يتميّز كبار الروائيين بابتكارهم لتقنيات غير مألوفة في زمنهم. وهذا كان حال بالزاك، وزولا، وفلوبير، وستاندال في فرنسا، ودستويفسكي وتولستوي في روسيا، وديكنز في بريطانيا خلال القرن التاسع عشر.

وقد عكست أعمال هؤلاء صورة مجتمعاتهم، والصراعات السياسية والاجتماعية التي طبعتها حتى أن كارل ماركس سمح لنفسه بأن يقول بأنه يكفي أن نقرأ روايات بالزاك لكي نفهم طبيعة المجتمع الفرنسي خلال القرن التاسع عشر.

وفي النصف الأول من القرن العشرين، برز روائيون تمردوا على تقنيات من سبقهم، مُولّدين تقنيات تتناسب، بحسب رأيهم، مع التطورات التي حدثت في العالم بسبب التقدم الصناعي والعلمي والتكنولوجي.

وكان كل من جيمس جويس وويليام فوكنر وفرجينيا وولف وجون دوس باسوس ومارسيل بروست من أهم الروائيين الذين أبدعوا أعمالا تختلف في تقنياتها عن تلك التي لاقت شهرة هائلة خلال القرن التاسع عشر.

رغم أنه من سبق ذكرهم تأثروا بالروائيين الغربيين فإن الروائيين اليابانيين الكبار خصوصا تانيزاكي وكواباتا الحائز على جائزة نوبل للآداب، حرصوا على ابتداع تقنيات تعكس “الروح اليابانية”، تلك الروح التي تميل إلى التستر والإخفاء، وتخيّر أن تعيش أوجاعها وآلامها في الصمت، فلا تشكو منها حتى عندما تبلغ ذروتها. لذلك تبدو بعض روايات كواباتا وكأنها  قصيدة هايكو لما تتميز به من اختصار وتكثيف وشاعرية عالية.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين، اكتسحت الرواية القادمة من بلدان أميركا اللاتينية العالم بفضل روائيين من أمثال خوان رولفو، وغابريال غارسيا ماركيز، وفارغاس يوسا، وكارلوس فيونتاس، وغيرهم من الذين صنفوا من قبل النقاد بمبتدعي “الواقعية السحرية” بحيث جاءت أعمالهم شبيهة بالأساطير الشرقية القديمة التي تكثر فيها الأحداث العجيبة، والشخصيات الغريبة مثلما هو حال رائعة ماركيز “مئة عام من العزلة” التي حققت له شهرة عالمية هائلة.

لكن ماذا عن تقنيات الرواية العربية؟

نعلم أن نجيب محفوظ لم يكن يخفي أنه تأثر في ثلاثيته التي صنعت مجده الأدبي بالواقعية في الرواية الغربية، وببالزاك تحديدا. لكنه عند عودته إلى كتابة الرواية بعد صمت استمر قرابة السبع سنوات، اختار أساليب أخرى تكثر فيها الرموز والإيحاءات مثلما هو حاله في “اللص والكلاب”، وفي “الحرافيش”، وفي “ثرثرة فوق النيل”. أما جبرا إبراهيم جبرا فقد حاول في روايته “البحث عن وليد مسعود” أن يستعمل نفس تقنيات ويليام فوكنر في رائعته “الصخب والعنف” التي كان قد نقلها إلى لغة الضاد، ليتأثر بها البعض من الكتاب العرب مثل غسان كنفاني، وغادة السمان، إلاّ أنه لم يفلح في ذلك إذ أنه وجد نفسه مُقلدا لا مبدعا.

وربما لهذا السبب كان بطل الرواية الذي هو وليد مسعود غامض الهوية، مرتبك الأفكار، متعثرا في مواقفه فلا نعرف إن كان فلسطينيا أم كائنا فاقدا للبوصلة.

أما الفلسطيني الآخر إميل  حبيبي فقد استفاد من التراث العربي متمثلا في رموزه الكبيرة أمثال الجاحظ، وابن المقفع، والأصفهاني، و“ألف ليلة وليلة”، وكتاب المقامات، مبتكرا تقنيات في رائعته “الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” تتناسب مع طبيعة بطله الفلسطيني الذي لا يتردد في الاعتراف بجبنه، وبخاياناته تماما مثلما كان يفعل أبطال المقامات، و”ألف ليلة وليلة”.

 ورغم أنه كان يقول إنه تأثر بالفرنسي لوي فارديناد سيلين، فإن التونسي محمود المسعدي استفاد هو أيضا من التراث العربي القديم، ليبتدع لنفسه تقنيات خاصة به تحيلنا إلى الصياغة القديمة للخبر العربي، وللتأملات الصوفية.

 ورادا على المنبهرين بالتقنيات الغربية، كتب عبدالرحمن منيف يقول إن “اعتماد التقنيات الغربية وحدها أو اعتبارها النماذج التي يجب الوصول إليها، من حيث الأشكال والموضوعات، لا يؤدي بالضرورة إلى الحداثة الروائية، وربما العكس هو الاحتمال الأقوى”.

ودعا منيف إلى ضرورة الاستفادة من التراث العربي القديم مؤكدا أن هذه الاستفادة ستكون سلبية إن هي توقفت عند التقليد.

وشدد منيف أنه على الروائي العربي إن كان أصيلا وخلاقا حقا، أن “يخلق مناخا نفسيا يُشْعر القارئ العربي، والأجنبي أيضا أن عمله امتداد لملاحم لا تزال حيّة في الذاكرة، وموقظة لها في كل آن وفي كل حين”.

14