ثلاث رسائل من جنازة الأيام الأربعة لقاسم سليماني

تبدو مراسم تشييع القيادي الإيراني الفريق قاسم سليماني، قائد فيلق القدس وقد امتدت مراسمها لأربعة أيام وجابت خلالها مدنا رئيسية في العراق ثم إيران، أنها المشاهد التي تستدعي قراءة في ما بين لقطاتها المصورة، بهدف قراءة آليات استثمار الحدث من قِبل تنظيم الدين السياسي الشيعي وأذرعه المُمتدة في أقطار العالم وحلفائه في الخارج، وتنظيم الإخوان على رأسها.
في أدبيات الإسلام السياسي تتجاوز جنازات الشخصيات القيادية حدود المراسم الرسمية والطقوس الدينية إلى آفاق تحقق العديد من الأهداف، وتوصل الكثير من الرسائل، وهو ما يجعل هكذا جنازات فرصة استثمارية لإدارة التنظيمات الدينية لتعمل بكل طاقتها، بهدف إخراج المشهد العام للجنازة، بما يتناسب مع احتياجات المرحلة التي تمرّ بها.
هدف التوظيف
يُمكن رصد الأمر بمراجعة جنازات قيادات تاريخية لتنظيمات دين سياسي سنية وشيعية، إضافة إلى أن مراسم تشييع القيادات الذين يلقون حتفهم في ظروف خاصة، على رأسها الاغتيال أو في السجون تأتي متجاوزة بكثير حالة استثمار مراسم الجنازة والدفن لنظيراتها التي تحدث في ظروف الموت الطبيعية.
بحسب ما تم فإن استثمار جنازة سليماني تقرر لها أن تمر بمحطات رئيسية في العراق، قبل أن تنتقل إلى إيران، حيث نُظمت جنازة رسمية في بغداد صباح السبت بحضور قيادات الدولة العراقية، يتقدمها رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي إلى جوار قادة التنظيم في الحشد الشعبي، ومِنها إلى الكاظمية، ثم جنازة شعبية انطلقت من بوابة المنطقة الخضراء نحو الجادرية، ومنها إلى المدن المقدسة لدى الشيعة، النجف وكربلاء.
من بعدها تُحمل جُثامين سليماني ورفاقه إلى إيران، حيث بدأت الأحد أولى محطات التشييع، لتنطلق من مدينة الأهواز ذات الغالبية العربية، ثم تتوجه عصرا إلى مدينة مشهد ذات المكانة المُقدسة شيعيا.
وكان من المُقرر أن تتوجه الجنازة إلى طهران مساء، غير أن الحشود غير المسبوقة، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية، حالت دون ذلك، ما أدى إلى تغيير وجهة الجنازة في اليوم التالي إلى مدينة الحوزات الدينية الشيعية “قم”، لتُقام المراسم بحرم ابنة الإمام جعفر الكاظم الإمام السابع لدى الشيعة الاثني عشرية. وتَصل الجنازة إلى وجهتها الأخيرة الثلاثاء، إلى مدينة كرمان مسقط رأس سليماني، ومدفن الشهداء، وأوصى بأن يتم دفنه فيها.
مراسم تشييع سليماني ورفاقه التي استمرت أربعة أيام، وامتدت عبر العراق وإيران شاملة ثماني مدن، تجاوزت جنازات قيادات الدولة الإيرانية، بما فيها الخميني ذاته، وشهدت حالة من التعبئة الإعلامية الإيرانية في الداخل والخارج، مدعومة بتغطيات إعلامية متواصلة، ناطقة باللغة العربية، أدارتها أوعية إعلامية تنظيمية ينطلق بثها عبر تركيا وقطر ولبنان.
وتم التركيز على دعوات الإمام علي خامنئي التي أطلقها بالعربية، مُختلطة بدموعه، فيما ترتفع في خلفية المشهد راياتُ الثأر، ويتسارع آلاف المودعين لمسح النعوش بقطعٍ متنوعة من الألبسة لينال أصحابها بركة الشُهداء التي تمنحهم دافع السير نحو درب الجهاد.
ورغم أن الهتاف الجامع للجماهير المُشيعة، كان “الموت لأميركا”، إلا أن حالة استثمار جنازة سليماني من قبل تنظيم الدين الشيعي تتجاوز في رسائلها التهديد الأميركي، لتتعدى ذلك إلى أُطر تنظيمية وإقليمية، تُشير إلى أن معركة الثأر لسليماني ورفاقه موجهة صوب أهدافٍ مغايرة لمُجرد استهداف أميركا، ويُمكن تحديد رسائل ثلاث لجنازة الأيام الأربعة.
أولا: رسائل الاصطفاف الشيعي
جاء مقتل سليماني في ظرفٍ استثنائي يُهدد التمكين الشيعي من العراق، مع تصاعد هبة العراقيين (سنة وشيعة)، في وجه الحكم التنظيمي لدولتهم الذي أفقدها استقلالها الوطني، وأثر على مجريات حياة المواطنين، وحول دولتهم إلى تابع للدولة الإيرانية التي باتت متورطة في مذابح ثوار العراق.
واقترن اسم سليماني بعمليات تصفية الثوار، الأمر الذي بات مُهددا لتوحد شيعة العراق خلف مرجعياتهم التي تتلقى تكليفاتها من المرجعيات الإيرانية، وهو ما جعل حادث استهدافه فرصة مواتية لاستغلال العاطفة الشيعية ليلتئم الصف العراقي داخليا في مواجهة أميركا باعتبارها وفقا لتوصيف المرجعيات “الشيطان الأكبر”، ما يفرض تنحية الخلافات السياسية والاصطفاف للثأر.
لكن حالة النفير الشيعي المصاحبة للجنازة وخطابها الذي تبثه أوعيتها في سوريا ولبنان (حزب الله)، واليمن (الحوثيون)، يُشير إلى أن حالة الاستنفار تتجاوز الحدود العراقية الإيرانية، لتشمل قطاعات جغرافية مشتعلة، ولتعمل على تعبئة قواعدها في هذه الأقطار نحو التوحد مع قياداتها التنظيمية، ما يشير إلى أن خطاب الثأر بات تكليفا مُعمّما على جند التنظيم الشيعي في سائر أقطار الحضور، وممتدا ليتجاوز هذه الأقطار إلى كل شيعي غادرها إلى مهجرٍ في أي بقعة من بقاع العالم.
ثانيا: رسائل اصطفاف حلف المُقاومة
بغض النظر عن موقف التنظيم الإخواني الرسمي الذي يرتبط في علاقته بالدولة الإيرانية بعلاقاتٍ دولية تتجاوز التنظيمات المحلية وقواعدها التي تُكفر الدولة الإيرانية، إلا أن قنوات التنظيم الرسمية التي تبث من تركيا وقطر ولندن استطاعت أن تُجاري خطاب التنظيم الدولي بما لا يصدم القواعد في عقيدتها، ويُجاري خطاب المُقاومة للمشروع “الصهيوأميركي”.
استنفار الأذرع
لهذا كان لا بد أن تتصدر مشهد التنظيم في الجنازة حركة حماس، كجناح عسكري إخواني من جهة، ومُرتبطة بعلاقات علنية وسرية مع نظرياتها من أجنحة عسكرية شيعية، سواء عبر فيلق القدس أو حزب الله، وبدأ مرسوم الحضور الإخواني في غزة واضحا من خلال سرادق عزاء أقيم السبت في ساحة حديقة النصب التذكاري للجندي المجهول، غير أن أجهزتها الأمنية لم تمنع قواعدها من توزيع الحلوى ابتهاجا باغتيال سليماني الذي تراه قواعد الداخل التنظيمي تسبب في قتل ملايين المسلمين.
ثالثا: رسائل استهداف المُحيط الإقليمي
تُوحي الحالة الإعلامية المُستثمرِة لمقتل سُليماني إلى أن حالة الاستنفار المُوجهة علنا صوب أميركا، تتعداها إلى استنفار نحو استهداف حضور الحلف الإيراني في محيطه الإقليمي، وهو ما يعني أن الاحتشاد الجماهيري الشيعي والمباركة التنظيمية الإخوانية حضورا وتسويقا، باتا مُوجهين نحو دعم الحلف المُكوّن من إيران وتركيا وقطر والإخوان، في مواجهة خصومه الإقليميين باعتبارهم حلفاء للشيطان الأكبر.
ويسوِّق التنظيم الإخواني بين قواعد الداخل المصري والخارج، لما أسموه “رسائل تحذيرية” وصلت من المخابرات الأميركية بشأن عزم إيران استهداف بعض الدول العربية القريبة بهجمات فتاكة، وتؤكد رسائل تنظيم الإخوان أن مصادره في هذه الدول أفادت أنها في حيرة من أمرها، لأن واشنطن قد تسمح لطهران بتنفيذ ضربات تنفيسا عن غضبها وخفضا للتصعيد، وكي تبقى مصالحها في مأمن وبعيدة عن الخطر.
تُمثِّل هذه الرسائل التنظيمية مؤشرا لأهداف الثأر الإيراني التي تتجاوز مجرد الثأر من القاتل إلى ضرب حلفاء له في الجوار، باعتبار أن حليف عدوي عدو، ما قد يفضي إلى أن يكون التحالف العربي في مواجهة قطر على رأس قائمة الاستهداف، لأن قواعد التنظيم الشيعي في منطقة الخليج تُمثِّل ظهيرا قادرا على الفعل والحركة.
يشهد التاريخ القريب لحالة استثمار وفاة القيادي “محمد مرسي” في محبسه بالقاهرة، وما تلاه من جنازاتٍ رمزية في قطر وتركيا وعدة عواصم إسلامية وأفريقية وأوروبية.
لم يكن الدعاء للميت هو المستهدف، قدر إثبات الحضور على خارطة الوجود، وشحن القواعد نحو ثأر من خصوم التنظيم، حتى وإن لم يكونوا سببا في الموت، لكن جلال الحالة يؤهل القواعد لنفير الجهاد نحو الخصوم الذين يُحددهم التنظيم الديني شيعيا كان أم سُنيا.
وعادة ما يكون الخصم الأقرب أسهل، بالتالي يتحد أبناء نفس المشروع إيرانيا وتركيا وقطريا وإخوانيا، كونهم إخوة في الدين، وشعارهم (أنا وأخويا وابن عمي على القريب)، لأن البعيد، أميركا، خصمٌ يَصُعب الثأر منه، كما أن الرد سيكون قاسيا، بما يصعب تحمله.