هل ينتظر الكاتب خريف العمر ليكتب رواية مؤثرة

يحمل الكثير من الروايات هاجسا كبيرا بتفكيك السرديات الكبرى والميثولوجيات وبنحت سردية خاصة تكوّن ما يشبه المرجع الفكري والجمالي أو حتى المتحفي للقراء، لكن هذا يتطلب بديهيا أن يكتب الرواية بما هي “أدب حكمة” أناس في خريف العمر، وهذا ليس صحيحا مطلقا.
قد تكون الرواية منذورة لصياغة حكمة عن مكابدة العيش، بما أنها تتعلق بأقدار البدايات والمصائر، رؤى لا تتأتى في اليفاعة ظاهريا، إذ تكتب الرواية برغبة لاعجة لفهم ما مضى، وما يحصل في جراب العمر من خطوب وتحولات، فتتجلى بما هي تأمل في النوازع الإنسانية للشر والفضيلة، ومساءلة للمعتقدات والأفكار المتراسلة عبر التاريخ عن الكون والإنسان.
وعادة ما نعثر في الأعمال الروائية التي تُنعت بالطليعية على مقومات تبديل القناعات، بحيث يمكن أن تخرج بعد قراءتها من سكينة اليقين إلى جحيم الشك، ذلك ما تحققه نصوص من قبيل “الغريب” لألبير كامو، ورواية “الأحمر والأسود” لستاندال، و“الإنجيل يرويه يسوع المسيح” لجوزيه ساراماغو، وغيرها من الروايات الخالدة، إنها الخاصية التي تجعل الرواية تمثل بما هي مراجعة لجوهر الإيمان وسعي إلى سرديات نقيضة.
خريف قبل الخريف
المفترض أن تكتب الروايات المنطوية على مراجعات جذرية بخصوص العقيدة والوجود في سن متقدمة، لاسيما أن روائيين عديدين اختاروا التعبير الروائي في سن ما بعد الأربعين. بيد أن تفاصيل شديدة الدلالة تجعل قارئ الرواية وناقدها والمتأمل لعوالمها يراجعون مبدأ اقترانها بخريف العمر، حيث لم تكن رواية “الغريب” الصادرة سنة 1924 لألبير كامو، وهو في سن التاسعة والعشرين من عمره، إلا مثالا على ارتباك هذه القاعدة وتهافتها، والتي قد يكون رسخها صدور أعمال من قبيل “الإنجيل يرويه يسوع المسيح” في التاسعة والستين من عمر صاحبها، أي في غمار الخريف الذاهب بعنفوان الجسد والذهن.
وجدير بالذكر في هذا السياق أن الروائي الفرنسي أندري مالرو لم يكن يتجاوز سن الثالثة والثلاثين حين حصل على جائزة الغونكور عن عمله “الشرط الإنساني”، وهي الرواية المتحفية عن جوهر الإرادة المجافية للشر، التي تغدو مكبلة للواجب، وفي تناقض مع مبدأ مكابدة العيش. لقد كان مالرو مقاتلا في حروب عدة، من الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى الحرب الأهلية الإسبانية، حيث تطوع فيها ضمن صفوف الجمهوريين، وكانت التجربة أكبر من السنوات التي تحول فيها إلى مقاتل وشاهد، ثم مناضل مناهض للاستعمار ومقاوم للغزاة والفاشيين.
الثقل والعمق
أستحضر رواية “الشرط الإنساني” جنبا إلى جنب مع “رجال في الشمس” لغسان كنفاني التي لم تتجاوز عتبات الشرط الإنساني إذ ارتكزت مدارات التخييل فيها على قاعدة استسلام الإنسان إلى قدره بتفاهة ودون مقاومة، لقد كتبها كنفاني وهو في السابعة والعشرين من عمره، وهو المناضل والفلسطيني الذي عاش معترك الثورة وتغريباتها المتراسلة، قبل أن يقضي في يفاعته البهية شهيدا، كانت الرؤية مرة أخرى بعيدة عن خريف العمر، إنما ناضجة، وقادمة من قعر الزمن والذاكرة، لفحتها قسوة المنابذ والمنافي والحروب.
هل قدر الرواية أن تعوض فيها حكمة خريف العمر، قدر الوجود على شفير الموت، وعلى حافة الخطر؟ لا تستقيم هذه القاعدة في سياق محفوف بالالتباسات والأقدار المتضاربة والمتنائية، فحين نشر فوكنر روايته “المحراب”، وهي من أكثر النصوص الروائية عمقا وفتنة على امتداد تاريخ الرواية الحديث، كان في الرابعة والثلاثين من العمر، دون أمجاد تذكر، ولا أحداث أو مغامرات فارقة، بعد مسيرة خاملة في إحدى مدن ولاية المسيسيبي الأميركية، كانت حياة هادئة لا تليق بكاتب روايات الرعب والصخب التي أصدر تبعا.
لقد كتب “المحراب” بنهم ظاهر إلى الحياة، حيث كان القصد تدبيج نص مثير وصاعق يفتن القراء، وخلال ثلاثة أسابيع كان قد أكمل أحد أكثر أعماله عمقا ونضجا إنسانيا، ولم يكن هذا النص الرؤيوي، الذي بات من أشهر الكلاسيكيات الروائية، إلا حكاية فظاعة النفس البشرية واجترائها على المحرمات، كانت الرواية تنضح بحكمة خريف العمر، تلك التي وسمها أندري مالرو حين قدمها للجمهور الفرنسي سنة 1933 بقوله “إنها إقحام للرواية البوليسية في التراجيديا الإغريقية”.
لكن لنعد إلى تجربة ساراماغو نفسها حيث يتجلى العمل بما هو صيغة دنيوية للإنجيل المقدس فيشخص يسوع في بشريته كما يمثل الرب والشيطان بنسغ إنساني يتحاوران لتفسير ما جرى من حروب باسم العقيدة.
لقد كتبت الرواية بثقل السنوات النافذة من شبكة العين العتيقة المطلة من شرفة السبعين على الماضي الذي عبر فيه الكاتب العقائد الدينية والسياسية والنضالية قبل أن يستقر على العقيدة الروائية التي جعلته ينهي سرديته بهذا المقطع المأساوي “بدأ يسوع المسيح يموت ببطء، وبدأت الحياة تنحسر منه، عندما فتحت أبواب السماء فجأة على مصراعيها وظهر الرب…، دوت كلماته في أرجاء الأرض، هذا هو ابني الحبيب الذي يفرحني، أدرك المسيح عندئذ أنه خدع، كما أن الحمل الذي يقاد للمذبح للتضحية به كان مخدوعا، وأن حياته قد رسم لها أن تموت منذ البداية، متذكرا أن نهر الدم والمعاناة التي ستتدفق من خاصرته وتغرق الكرة الأرضية، صاح نحو السماء المفتوحة حيث يمكن رؤية الرب وهو يبتسم، أيها البشر، اغفروا له”.