النقد الإشهاري وموت النقد

الفصل بين النقد والإبداع في حدّ ذاته، هو انحياز لطرف وتحميله المسؤولية على حساب الطرف الآخر، وهو ما لا يصحُّ.
الأحد 2019/12/22
لوحة الفنانة علا الأيوبي

الاعتراف بأنّ ثمّة أزمة حقيقية تواجه النقد والنقاد معًا، ليس جديدًا، بل هو قديمٌ، لدرجة أن يوسف السباعي الذي عهدت إليه مهمة إحياء مجلة الرسالة التي توقفت عن الصدور عام 1953، فأصدر الرسالة الجديدة، لتواكب المرحلة الجديدة التي جاءت مع ثوار يوليو 1952، وطرح في افتتاحية المجلة هذه القضية وإن كان “ردّ ضيعة النقد إلى الخطّافين والمدّاحين والهدّامين وطُلّاب الشهرة من هلافيت الأدب” كما عنون مقالته.

 كما ناقشَ أسبابَ هذه الأزمة نقادٌ كبارٌ، بل هناك مَن سعى إلى البحث عن بوصلة لتحصين النقد من أزماته. وقد حُصرت الأسباب في النقد الأكاديمي الذي انصرف المتخصصون فيه إلى صومعتهم، مُتعالين على القارئ العادي؛ منهجًا ولغة، فأسرفوا في استخدام المصطلحات، حتى غدت كتاباتهم أشبه بلوغاريتمات تحتاج إلى فكّ شيفرتها أيضًا.

أما السبب الثاني للأزمة عندهم، فيرجع إلى النقد الصحافي الذي يُمارسه المنتسبون للصحف السيّارة والدوريات المختلفة، دون أن يأخذوا في بالهم، أن النقد الصحافي لم يُولَد من فراغ، وإنما جاء بديلاً لسدّ الفجوة، التي أحدثها غياب الناقد المتخصّص، في متابعة الجديد من الأعمال وتقديمه للقارئ.

وقد ظهر هذا النوع من النقد في بادئ الأمر في عصر الأنوار؛ حيث لم يَعُد النقد الأكاديمي مُهتمّا إلّا بالآثار الماضيّة. في تلك الفترة نشأت صحافة أدبيّة، سريعًا ما أعطتْ لنفسها حقّ الحُكْم في الأثر. هذه الصحافة كانت في بداية الأمر مجرد صحافة إعلانات لا تنشر إلّا ملخصات وعروض تنويهيّة للكتب. وبالأحرى يهتمُّ هذا النقد بالأخبار الأدبيّة، كاهتمامه بالأخبار السياسية والاقتصادية.

ومع أن هدف النقد الصحافي الأساسي، هو الترويج للكتابات الجديدة، إلا أنّه تجاوز الترويج إلى تحليل الأعمال، فأخذ سُلطةً ليست له، ولا هو في الأصل مؤهّلاً لها، وهو ما آثار غضب الكثيرين، فوجّهوا له الكثير من الاتهامات من قبيل؛ أنه سطحيّ، ويفتقر إلى الذوق الأدبيّ والحُكم، وكما يعمد إلى الانحياز والتنميط، ويميل إلى الطابع التجاري، والصفة الأخيرة جعلت من ميشيل بوتور يرى أن “النقد الصحافي للأدب مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأدب التجاري. كما أن مَن يقوم به يتسمُّ بضعف الثقافة”.

في الماضي كان الاتهام الشائع للناقد بأنه يُمارس وظيفتيْن؛ الأولى، بأنّه يكيل المدح والثناء بكرم وسخاء. والثانية، بأنّه يقذف بلاذع الهجاء في غير تحرّج ولا استحياء، ومع أنّ وظيفة الناقد لم تكن يومًا من الأيّام مدحًا أو ذمًا، وإنما أن يقول لنا لماذا هذا النص حَسَنٌ وأين موضعُ الحُسْنِ، ولماذا هو قَبيحٌ وأين مكان القُبح فيه؟ ومن هنا تكمن صعوبة النقد كما قال أبوحيان التوحيدي وبعبارته “إن الكلام عن الكلام صعب”.

ومرجع هذه الصعوبة حسب تعريف آبر كرومبي لأن النقد “يأتي لتأكيد صحة الحُكم، ويجب أن نرجع في تحليلنا وتقديرنا إلى القواعد العقلية”. فهو ليس ترجمة للنص الأدبي كما يظن البعض في مسعى للسخرية منه، وإنما “كتابة إيحائيّة” تارة أو هو “كلام على الكلام” تارة أخرى، وفق وصف بارت.

على المستوى التجاري فللناقد دور مهمٌّ؛ حيث يُسهم في النجاح الماديّ والتجاريّ والرمزيّ للأعمال الأدبيّة، برفع حجم المبيعات، وكذلك في شهرة الكاتب، وأيضًا في الاعتراف به، خاصّة لو أنّ الناقد ينتمي إلى مؤسسة أكاديميّة، وإن اختلف الأمر الآن -قليلاً- في ظلّ تنازع سلطات جديدة، كسلطة الوسائط الإلكترونية الجديدة من جهة، وسُلطة الجوائز الأدبيّة من جهة ثانية، بما تحقّقه مِن ترويج للأعمال الحاصلة على جائزة لجنة التحكيم، أو حتى تلك التي تضمّها القوائم الطويلة أو القصيرة للجائزة. وهو ما أعتبره بمثابة الدور الإيجابي للجوائز، بغض النظر عن آليات التحكيم، أو حتى جودة النص الفائز مقارنة بغيره من النصوص في دائرة السباق.

ومع حلول الألفية الجديدة، أدّت الثورة التكنولوجية في مجال المعلومات والاتصالات وخصوصًا الإنترنت إلى تحولات جذرية في مجتمعات العالم كلها من دون استثناء، وباتت مواقع التواصل الاجتماعي تحتل المساحة الكبرى من حياة الإنسان.

ثمّ فمن البديهي ألّا نغفل هذه التأثيرات التي أحدثتها الثورة الرابعة، كما أطلق عليها الإيطالي لوتشيانو فلوريدي، من تغييرات في تشكيل واقعنا الإنساني، وأيضًا كعُنصر مهمّ ساهمَ إلى حدٍّ بعيدٍ في الإعلان (أو الاعتراف) بموت النقد والناقد، خاصّة في ظلِّ ما أتاحه عالم الإنفوسفير (الغلاف المعلوماتي) من نقلة نوعية في عالم النشر، بتحوّل الكُتّاب إلى منصات النّشر الإلكتروني، وهو ما كان بمثابة زحزحة لدور الناقد.

فلم يعد الكاتب بحاجة في ظلّ الإمكانات التي أتاحتها منصات النشر الإلكتروني (أبل بوكس Apple Books، أمازون Amazon، غوغل بوك Google Books) إلى مَن يقوم بعملية الإشهار له ولكتبه، فقامت هذه المنصات بهذا الدور، بل يمكن اعتبار الرقمنة بمثابة كتابة تاريخ جديد ينهي تاريخ الكتابة، حيث حلّت وسائط جديدة للتقويم والحكم.

وقد أتاحت فرصة النشر الفردي التحرّرَ من سلطة النُّقاد، وهو ما ساهم إلى حدٍّ كبير في دفع الكثيرين إلى احتراف مهنة الكتابة وأن يصير روائيًّا “دون المرور بالطقوس الشرعيّة التقليدية (الناشر والناقد)؛ خاصّة وأنّ كثيرًا من الأعمال المنشورة على كُبريات منصات الكتب الرقمية لا تُحكّم ولا تحترم معايير الكتابة الروائيّة المتعارف حولها” كما يقول محمد الإدريسي.

لا تتحقّق شرائط النجاح لهذه الأعمال وفق شروط النقاد أو القواعد النقدية التي صاغها لاسل آبر كرومبي، من قبل في “قواعد النقد الأدبي”، وإنما دخلت عوامل جديدة، فرضتها قوانين سوق الإنفوسفير كزيادة نسبة المبيعات والتحميلات، وآراء القرّاء العاديين. كما حلّ الجمهور والوسائط التكنولوجيّة الجديدة كالمدونات وغيرها محلّ الناقد لممارسة دوره مع الفارق.

غياب الناقد هنا كان لاختلاف شروطه عن شروط القارئ (العادي) الذي كُتبت الرواية الرّقمية من أجله، وفق معايير ذائقته الجمالية، التي كانت بمثابة إعادة ترسيم لشروط الإبداع الأدبي في الحقل الروائي، فظهرت أشكال جديدة كروايات الخيال العلمي والروايات الرومانسيّة والروايات البوليسيّة.

وهو ما يعود بنا إلى جمهور الرواية وتأثيره في نشأة الرواية أوائل القرن العشرين، وسعى الكُتّاب إلى خلق أنواع تتماشى مع ذائقة هذا الجمهور، الذي هو من أبناء الطبقة الشعبيّة مِن حرفيين وفنيين وأصحاب أعمال يدوية. فذائقته كانت بمثابة سُلْطة حقيقية استطاع الروائيون أن يستجيبوا لمتطلباتها، فأقبل الكتُّاب على روايات العاطفة، والروايات البوليسيّة، غاضين الطرفَ عن الظرف الذي تمرُّ به البلاد في مواجهة الاستعمار، وهو ما كان وقتها سببًا للهجوم عليهم من قبل غير المؤيدين لها.

الفصل بين النقد والإبداع في حدّ ذاته، هو انحياز لطرف وتحميله المسؤولية على حساب الطرف الآخر، وهو ما لا يصحُّ. فالحديث عن أحدهما دون الآخر يُعتبر خللاً بالعمليّة الإبداعيّة، وقضايا النص الأدبي هي قضايا النقد، فهما صنوان متلازمان، لا غنى لأحدهما عن الآخر، فالكاتب وهو يُقيّم تجربته ويقوّمها، هو -بالضرروة- ناقد يُمارس دور الناقد على عمله قبل أن يرى النور.

فإذا كان الكثيرون أشاروا إلى غياب النقد الذي يوازي موته مجازًا، في الوقت ذاته لم يحمّلوا الطرف الأساسي أيّ مسؤولية عن أسباب الانصراف، فهذا مخالف للواقع. فالحقيقة أن هذا الموت المجازي، ليس نتيجة لأسباب خاصّة بالنقد والناقد وفقط، وهو الخطأ الكبير الذي يتصدّى له مَن يناقشون الظاهرة.

فالأزمة في أصلها أزمة صراع بين طرفي المعادلة، على أهمية الأدوار وأسبقيتها منذ البداية، قبل أن تكون نِتاج ظرف تاريخي وثقافي مُعقد، لما يشهده الواقع من متغيرات اجتماعيّة وتطورات حضارية، التي كان لها أكبر الأثر في إحداث تغيّرات على مستوى المفاهيم والتلقي.

فقارئ اليوم يختلف عن قارئ الأمس. فقد كانت وسيلته للقراءة هي الكتاب المطبوع فقط، الآن في ظل النقلة النوعيّة الرقميّة، بدءًا من قراءة الكتاب عبر وسائط متعدّدة اختلفت توجهاته، وليس انتهاءً بطباعته وتسويقه إلكترونيًّا، لم يَعُدْ لرأي وتقييم الناقد أيّ أهمية تُذكر.

10