الشعر والرواية في مواجهة مستجدات الحاضر

تطرح مقالة الصديق الشاعر نوري الجراح “الشعر حصان المستقبل” (انظر مجلة الجديد – العدد 59، ديسمبر 2019) عدة قضايا تخص الشعر والشعراء، وتخص الرواية أيضا بعد أن صارت منافسا عنيدا للقريض، ويخلص إلى أن الرواية في المستقبل المنظور إلى زوال إذا لم تتأقلم مع مستحدثات الثورة الإلكترونية المتواصلة، وأن الشعر باق برغم الأزمات. ذلك أنه ينطلق من معاينة راهنِ الشعر العربي، الذي “يشهد اليوم نوعا من النمطية المستجدة”، ونصوصِه التي “ابتعدت عن فكرة اللغز، وباتت تضرب في أرض المعلوم”، و”تفتقر إلى موقف فلسفي من اللغة والوجود”.
والنمطية في رأيه تتمثل في “تسليم الشعراء نهائيا بالنثر وسيطا لتوليد الشعرية” واحتفاء شبيه بالتقديس لقصيدة النثر، ما أطمع أناسا كثرا من ضعاف الموهبة، وخلَق فوضى عارمة في مدينة الشعر العربي، التي باتت بلا أسوار ولا أبواب في غياب حارس/ ناقد يحل كل شيء محله. فقد تحول الحدس الشعري عند هؤلاء إلى ما يشبه أفكار حِرَفيّ، ففقد الشعر تساميه الأصلي لينحدر إلى الشواغل البسيطة لمُصنِّع نص. وبدل كونٍ منطوق بجلاء، له صلة بمقتضيات العقل الواضحة، ظهرت لوحة مفتتة تتحدى كل قوانين الإدراك، وتشظت في نوع من الفوضى البنائية.
ومما زاد مدينة الشعر هشاشة أن جانبا من الشعراء هجروا الشعر ودروبه الوعرة إلى الرواية، لعلهم يجدون فيها سبيلا للتعبير عن ذواتهم ومشاغلهم، ويحققون ما لم يبلغوه في عالم الشعر. ولكن الجراح يعبر عن شكه في إمكانية تحقيق مبتغاهم نظرا إلى زحف الشاشات بأنواعها، واستحواذها على وسائط الكتابة والنشر والقراءة استحواذا يهدد بزوال الرواية، في صيغتها الحالية على الأقل. ويؤكد من موقع الشاعر المجرب أن المستقبل للشعر، ومن ثَمّ عنوان مقالته.
لا جدال أن حركة التجديد الشعري، التي نهلت من تجارب بودلير، ومالارمي، ورامبو، وسان جون بيرس، وإليوت، وعزرا باوند، ووايتمان، قد خبا وهجها برحيل روادها، أو ركونهم إلى الصمت يجترون منجزاتهم، وأن التجارب اللاحقة التي عادت إلى التراث العربي تستلهم روح التصوف فيه لم تجد الصدى المنشود، وأن الأصوات القليلة الجادة غطى عليها ضجيج أصوات جديدة دخلت قصيدة النثر من الباب الخاطئ.
ومن هنا كانت الفوضى التي أشار إليها صديقنا الجراح، ولكن من نحا من هؤلاء أو أولئك إلى الرواية لم يكن بدافع البحث عن سبل تعبير أسلس وحده، وإنما انساق مع تيار عاتٍ، جرف وراءه كل راغب في الظهور، بعد أن اجتاح الساحة العربية في الأعوام الأخيرة هوس بكتابة الرواية، وبات أغلبهم يتخذها مطية لإثبات الذات وتحقيق مكانة اجتماعية لم يحزها في مجالات تخصصه، أو لم يبلغها بكتابة الشعر.
وأضحت كتابة الرواية مطمح الجميع، لاسيما في هذه المرحلة التي تقلص فيها عدد قرّاء الشعر في العالم، نتيجة عوامل كثيرة أهمّها طغيان الأدب السرديّ دون شكّ، ومنافسة المحامل الإلكترونية، ولو أن الشعراء الأصلاء لم ينقطعوا عن القريض، بل راحوا يبحثون عن سبل تطوير أدواته، والثورة على أنساقه، لإيمانهم بأن ثمة اليوم حاجة ملحة إلى الحس والمعنى. وإذا كان بمقدور الرواية أن تصور كل ذلك وتحلل عناصره، فإن التقاط الجمال فيه لا ينهض به سوى الشعر.
الشعر هو شدو الإنسان في هذا العالم، ولسانه في التعبير عن وضعه التراجيدي في الزمن المعاصر، ولكن حياة الشاعر، كما بين كيركيغارد، تبدأ بصراعه مع الواقع كله، فهو ينطلق من الواقع ليصوغ واقعا مختلفا، نوعا من الواقع السريالي، لكي يعيد إلى الأشياء ما يخفيه المرئيّ عن ناظريه. ثم إن القيمة الشعرية تتركز دائما على الفكر، فقد ارتبط الشعر منذ بداياته بالفلسفة، ولا يزال يتغذى منها، ودينامية تطوراته المعاصرة ليست بمنأى عن هذه العلاقة، سواء على مستوى الإيقاع أو الفكر.
رأينا ذلك في تجارب السابقين، مثل هولدرلين، وليوباردي، مثلما لمسناها في من جاء بعدهم أمثال إيف بونفوا، وفيليب جاكوتي، وميشيل ديغي، ولدى كل من تأثر بهم من شعراء العربية. وما زال كثير منها يشهد على هذا الترابط بين الشعر والفلسفة. ألم يقل أينشتاين إنّ الأداة الشعرية لها نفس شرعيةِ الأداة المنطقية؟
فالشعر باق ما بقي الإنسان، وكذا الرواية، لأن الأدب لا يتوارى كشبح. ومن ثَمّ فإن القول بموت الرواية لا يعدو أن يكون استعادة لما واجهته من نقد راديكالي أعرب عنه منظرو الرواية الجديدة في فرنسا، وأعلنوا فيه عن موت الرواية وموت المؤلف معا. وكان دعاته ينبذون الواقع وكل ما هو مرجعي، ويصرون على أن أي نص لا يحيل إلا على نصوص سابقة. وقد وجدوا السند لدى بعض المفكرين اليساريين أمثال دولوز، وبورديو، ولاكان، وبارت. ثم اختفى تيار الرواية الجديدة باختفاء رموزها ولم تمت الرواية، بل نهضت من رماد تلك الحقبة لتعانق العالم برؤية جديدة.
وقيل الشيء نفسه في الولايات المتحدة في المرحلة ذاتها، عندما ظهر إنتاج روائي يخالف الذائقة السائدة، من خلال أعمال تميزت بما أسماه النقاد “ميتاخيالية”، أي تشويش الحدود بين التخييل والسيرة الذاتية. وكانت في الجملة أدبا عرف كيف يدمج ما توصلت إليه الرواية الجديدة في فرنسا من نتائج، في تمردها على الرواية الكلاسيكية. ورغم ظهور أسماء أمثال جاك كيرواك، وويليام بوروز، وجون بارث، فإن عناوين بعض الصفحات الثقافية كانت لا تنفك تنعى موت الرواية الوشيك.
وقد رأى المؤرخون في ذلك تعبيرًا عن نوستالجيا نقاد تعلقوا بتقاليد أدبية معينة مثّلها جيل من العمالقة في مقدمتهم دوس باسوس، وهيمنغواي، وفوكنر، ورفضًا لتصور جديد للأدب الروائي ومِراسه.
مثل هذا الانتقال، من مرحلة إلى أخرى، تصحبه دائما معطيات جديدة، نجدها اليوم في علاقة الكتاب الورقي نفسه بالملتيميديا، وأثر ذلك على نشر الأعمال أيا ما يكن جنسها، بعد أن صارت وسائل الاتصال الحديثة تنافسها، بل وتهدد وجودها. ولكن بعض العارفين من أهل الصناعة يرون في التنبؤ بموت الرواية نوعا من التغطية على مرحلة قادمة، وما التأكيد على الأزمة إلا دليل على وشك انفراجها، لكونها أولا تهديدا يدرَك في الزمن الحاضر عن حدث سوف يقع في المستقبل ويضع حدّا لما سلف. ولكونها ثانيا قطعا مع منظومة قيم سابقة. ولكونها أخيرا تعبيرا عن نهاية عالم وبداية عالم جديد. وإذا كان بعضهم يبكي موت الفينيق، فإن آخرين يعملون على انبعاثه.
بسؤاله عن الشكل الجديد الذي سوف ينبثق من الثورة التكنولوجية، قال الفرنسي جان رُوُو الفائز بجائزة غونكور عام 1990 “قد تكون الإجابة أكثر عنفا من مرحلة الستينات والسبعينات، ولكن الجديد لن يكون رواية مؤلفة من رسائل إلكترونية وتغريدات، فالحداثة التكنولوجية ليست مجرد تغيير في الوسائط، بل هي تغيير في البراديغم”.