المتنبي نموذج للمثقف الانتهازي وأناه تطغى على كل شيء

يرقد الآن الأديب الكبير محمد جبريل مريضا في المستشفى، ولولا استغاثات أصدقائه المبدعين لما استرعى مرضه اهتمام المسؤولين في الدولة، وكأنّ أعماله لم تشفع له، مع أن تجربته الروائيّة تعدّ تجربة فريدة بعض الشيء عن مجايليه، فهو ينتمي فنيًا إلى جيل الستينات، إلا أن تجربته تكاد تكون الوحيدة باستثناء تجربة جمال الغيطاني، اتصالا بالتراث، واستلهامه عبر كافة أشكاله: “الديني والأدبي والتاريخي والشعبي والأسطوري”؛ والشاهد على هذا أعماله الإبداعية وخاصة الروائية التي يتفاعل فيها مع التراث ويشاكله ويحاوره بكافة الصيغ.
في نصّ “من أوراق أبي الطيب المتنبي” (1995)، يستعير محمد جبريل كل أدوات النّص المحقّق، ويتلبَسُ هنا المؤلف لَبُوس المحقّق بكل أدواته التحقيقيّة التي يستعين بها في كتابة النّص المحقّق. ولا يتوانى محمد جبريل أن يشير في جزء من أجزاء النص إلى طبيعة المحقِّق لا المؤلف بدءا من العنوان الخارجي على الغلاف، فهو يصف نفسه بنفس التوصيف الذي قام عليه متنه الروائي فحمل العنوان مع كلمة “رواية” تلك الإشارة الدالة “تحقيق وتقديم: محمد جبريل” ويستمر المؤلف في اقتباس دور المحقِّق فيذكر في المقدمة التي يصدّر بها النص حقيقة هذه الأوراق، وقد عنونها بـ”حكاية هذه الأوراق”، ذكر فيها روايات ثلاث تتحدّث عن مصدر هذه الأوراق وكيف وصلت إليه.
شرح المتنبي
في هذه الحكاية الخاصّة عن طبيعة الأوراق التي سيذيعها، يلتزمُ المؤلف بدرب المُحققين، في تتبعهم لمسيرة هذه الأوراق وكيف وصلت إليه وتعدُّد الرِّوايات، ومن ثمَّ التزامه منهجا بعينه في تحقيقها وهو ما سيظهر داخل المتن حيث الهوامش والتوضيحات الخاصّة بأسماء الأعلام والأماكن.
المتنبي يمثل شخصية المثقف الانتهازي، وهو معنيٌّ بإعلاء ذاته وإثبات الأنا الطاغية
وقد فرضت طبيعة المحقِّق نفسها على الأوراق، فالمحقِّق كما وَسَمَ نفسه لم يقسِّم مرويته إلى فصولٍ أو وحدات معينة، أو عناوين رئيسة أو فرعيّة دالة وإنما قسَّم روايته إلى 469 ورقة مرقمة ترقيمًا متسلسلاً خاليًا من ذكر التواريخ كما وجدها، حتى الأوراق المحذوفة، تركها كما هي.
قدرة على البوح
يلتزمُ المؤلف بدرب المحققين، في تتبعهم لمسيرة هذه الأوراق وكيف وصلت إليه وتعدد الروايات
من الأشياء التي وسّعت من دائرة المحقِّق على حساب المؤلف هو مساحة الهوامش التي يفردها لها، وقد استغلها جبريل في وصف شخوصه ظاهريًا ونفسيًا. وبذلك تصبح الهوامش كما يقول محمد نجيب التلاوي “ليست لعبة تحديث فقط، ولا تُمثِّل وحدات سرد ثانوية، وإنما هي في مجملها وحدات سرد أساسية ذات إيحاءات دلالية تتصل مباشرة بالسّرد الروائي الصّاعد”.
بل إن الأمانة التي تفرضها طبيعة المحقِّق غلبت على طبيعة المؤلف فيشير في الهامش بقوله: “لاحظنا أن المتنبي لم يشر إلى تاريخ كل حادثة بتوقيتها، ربما لأن كتابة المذكرات والسير الذاتية -بصورتها الحالية- لم تكن معروفة آنذاك، وقد فصّلنا بديلاً لذلك بأن نشير إلى الأوراق بأرقامها المسلسلة”.
ويشير الباحث عبدالحميد إبراهيم إلى طبيعة الشكل التحقيقي الذي اتخذه محمد جبريل لمرويته بقوله: “قد توافرت له كل المظاهر العلمية، يذكر التواريخ، ويحدد أوراق المخطوطة، ويتحدّث عما فيها من طمس أو حذف، ويورد الهوامش الكثيرة التي تُعرِّف بالأعلام والأماكن، وتُعلِّق على الأحداث، وتُرجِّح بعض الآراء، وتُشير إلى المُلابسات التاريخية، ويتخذ لذلك خلال روايته أسلوبا علميا تقريريا يتعمّد فيه أن يخلو من الزخرفة البيانية، وأيضاً من المسحة الشِّعرية التي تتناسب ولغة المخطوطات.
إنه أسلوب سهل يعمد إلى هدفه بأقصر الطرق، ويقوم على الافتراض وتقليب الآراء، وترجيح بعضها، ومحاولة الاستنتاج”، وقد يُرجع البعض رفض جبريل لوضع تواريخ على الأوراق والاكتفاء بذكر أرقامها وإسقاط بعضها كان لجعلها قادرة على الانطلاق من إسار العصر الذي من المُفترض أنها كُتبت فيه وتُعالج همومه، لتُخاطب عصرنا، عصر إنتاج الرواية، ولتكون أكثر حرية وقدرة على البوح والإشارة إلى أشياء مُعاصرة وضّحناها من قبل.
لم يكن اختيار شخصية المتنبي بما تحمله في الذاكرة الجمعيّة من سمات التمرُّد والمعارضة واستقلال الرأي ببعيد عن أيديولوجيا المؤلف خاصّة وهو يعكس هذه الشّخصية على عصر اتسم بالجدل في معظم القرارات التي اتخذها الرئيس السّادات آنذاك.
فالمتنبي هنا يمثّل شخصية المثقف الانتهازي، وهو معنيٌّ بالأساس في إعلاء ذاته وإثبات الأنا، ومع هذا فهو يتشابه مع الأبطال الرومانسيين في حمل أحلامٍ بعرض السماوات والأرض لكن يفشل في تحقيق التغيير المنشود، ومن هنا كان حضور الشخصية التاريخي لا بوصفها تحيل إلى شخصية آنية قد تتصل بها عبر مفردات بعينها، بقدر ما هي تشير إلى جدلية علاقة المثقف بالسلطة من ناحية وما تنتهي إليه هذه العلاقة مِن مطاردة تجعل من المثقف شخصا انتهازيا لا يخرج من صراعه مع السلطة إلا بتحقيق مصالحه الشّخصية فحسب، وهو ما يفشل فيه ومن ثمّ تنعكس علاقته بشكلٍ آلي على مواطنيه من ناحية ثانية، وهي العلاقة التي تعطي له قدرًا على مستوى الأنا، وهو ما يجعله منبوذًا مِن أفراد مواطنيه نظرًا لحالة الاستعلاء التي يلقاها نظير تعامله معه.