غودو جديد لن يأتي كعادته لإنقاذ عائلة مغربية

مسرحية "خلاكة" تدور حول موضوع الخلق الجديد المنبوذ، وسط صراع بين الأم الحامية لوليدها المشوّه والأب المستكين للتقاليد.
الاثنين 2019/11/25
غاب غودو وحظر الموت

تطرح مسرحية "خلاكة" المغربية ثيمة كفاح الإنسان من أجل استمرار الحياة وتجنّب الموت في صحراء قاحلة لا ترحم المستسلمين، الذين وضعتهم أقدارهم في هذه الجغرافيا الجدباء من القوت، لكنها غنية بالعادات والتقاليد.

الرباط- “خلاكة” عمل مسرحي مغربي يغوص في أعماق الثقافة الحسانيّة، كما ينقل إلى خشبة المسرح حياة الرحل وأجواء البادية الصحراوية من خلال قصة زوجين يجدان نفسيهما في عزلة بالصحراء ستفتح أمامهما الباب للمكاشفة والبوح، وذلك عبر حديث كل واحد منهما عن رغباته الظاهرية والباطنية في ضوء حياة طفل يتأرجح بين رغبة الأم في أن يبقى المولود على قيد الحياة وسعي الأب إلى قتله للخروج من ورطتهما.

هكذا شدّت المسرحية الجمهور المغربي الذي تابعها مؤخرا على خشبة المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، بعرضها المساحة الهائلة من الرمال والصمت المطبق، وأصوات من يعيشون فيها، وهم يعبّرون عن هواجسهم وأحلامهم وأفراحهم الصغيرة في صحراء ممتدة لا يُعرف عنها الكثير.

طفل مشوّه

بدأ العرض الذي أخرجه أمين غواذة عن نص للتويجر يوسف، بقرع الطبول، وترديد الأشعار باللهجة الحسانيّة، التي يتكلمها ساكنو الصحراء، فأثارت الأصوات في النفوس الفضول وأسئلة المعرفة عن هذا العالم مترامي الأطراف في جنوب المغرب، المجهول للبعض.

عمل مسرحي يغوص في أعماق الثقافة الحسانيّة
عمل مسرحي يغوص في أعماق الثقافة الحسانيّة

كان أكثر الأسئلة إثارة: هل بإمكان البشر العيش في هذه الصحراء حقا، وتبادل الحب والإنجاب والشعور بالسعادة كباقي البشر؟ فأجابت المسرحية عنه، بما شاهده الجمهور حول العلاقة بين امرأة وزوجها (خديجة زروال وأحمد باحدا) وهما يكافحان جميع ظروف العزلة التي فرضها واقع الصحراء، وميثولوجيا القبائل فيها، فنعرف من حوارهما أنهما ورضيعهما مطرودون من القبيلة بسبب وليدهما المشوّه، فالقبيلة حسب تقاليدها تتشاءم من ولادة طفل مشوّه الخلقة بين أفرادها.

هذا العرف البدائي الغرض منه الحفاظ على العرق القوي في القبيلة، حتى يستطيع كل وليد فيها، النمو والنضوج، ليتغلّب على ظروف الصحراء الصعبة. هذه العادة تم تغليفها بمعتقدات تشاؤمية تُنذر القبيلة بالأخطار والفقر بسبب احتضانها لأفراد مشوّهين، ومنعت عيشهم مع أسوياء القبيلة. 

وتعني كلمة “خلاكة” التي استعملت كعنوان للمسرحية باللهجة الحسانيّة الخلق أو الميلاد، وثيمة المسرحية تدور حول موضوع الخلق الجديد، المنبوذ من جميع أفراد القبيلة، فترفض أم الرضيع الإذعان لمطلب شيوخ القبيلة بالتخلي عن طفلها، فيعيش الزوجان في خيمة بائسة بعيدا عن أهاليهما.

وبسبب الظروف الصعبة التي يعيشها الزوجان، يتبادلان التهم بسبب رضيعهما مشوّه الخلقة، فيما يحلمان بمخلّص يأتي لينقذهما من شظف العيش وحياة العزلة المريرة التي يعيشانها بعيدا عن الأهل والأصحاب.

العائلة الصغيرة ارتحلت قبل فترة قصيرة إلى “العزيب” (تعني بالحسانيّة أرض الكلأ البعيدة)، وقد قطع الزوجان صوبها مسافات طويلة بحثا عما تتقوّت به ماشيتهما، والحصول على القليل من الماء، من الأرض الصحراوية المنخفضة، التي استقرت فيها أمطار الشتاء. لكنهما عادا من هناك بعد أيام من التَّرحال بخفي حنين، فلم تجد ماشيتهما ما ترعى عليه هناك، ولم يجدا أيضا إلاّ ماء آسنا لا يصلح للانتفاع به.

تدور حوارات في المشاهد متوتّرة، سريعة، متصاعدة الحدّة بين الرجل وزوجته، فتظهر صلابة الزوجة وأن للأنثى هناك في ذلك الجزء الموحش من العالم طعما آخر، فهي بالرغم من شظف العيش، ومقاطعة الأهل والأقارب لهما، وفشلهما في الحصول على شيء من الكلأ في “العزيب” يمكن أن يعزّز وضعهما، إلاّ أنها كانت تعطي الأمل لزوجها، وتأمل بمجيء “منقذ” قريبا. يظهر من جوف الصحراء ليساعدهما، وينهي قلقهما على وليدهما وعلى ما يمتلكان من ماشية، وما يسدّ رمقهما من طعام.

في انتظار غودو

شكّل وجود الوليد الصغير المشوّه والمعلّق بأرجوحته المريحة في وتد الخيمة كابوسا مخيفا لوالده، لما حمله الرضيع من نذر شؤم له ولزوجته، وللقبيلة التي ينتميان إليها حسب معتقدات أفرادها الصحراوية.

تزداد حدة التوتّر الدرامي في مشاهد المسرحية حين يطلب الزوج من زوجته وبإلحاح أن تسمح له بقتل الرضيع، ودفنه في الصحراء، للخلاص من شؤمه، ومن ثمة العودة إلى القبيلة ليعيشا فيها، فلا يعدما هناك من يساعدهما في تدبير أمور معيشتهما، حتى يأتي الغيث. ولكن الزوجة ترفض أن يقتل الأب ابنه، وتحمي الرضيع المشوّه من كل محاولات الأب لقتل الرضيع، سائلة الله أن يأتي المنقذ لينقذهما ممّا أصابهما من قحط وعزلة.

حياة مأساوية
حياة مأساوية

وهنا، تذكرنا بعض مشاهد “خلاكة” بمسرحية “في انتظار غودو” لصومئيل بيكيت، التي أنتجت في العام 1953 واعتبرت كأهم عمل مسرحي في القرن العشرين. فقد عرضت مسرحية بيكيت شخصيات مهشمة، منعزلة، تعاني من فقدان كل شيء، وتنتظر شخصا يُدعى غودو ليغيّر حياتها نحو الأحسن. واستُخدمت فيها تركيبات لغوية، ولعب بالألفاظ لإحداث التوتّر المطلوب في المشاهدين.

واستخدمت مسرحية “خلاكة” اللهجة الحسانيّة، أثناء انتظار غودو الصحراوي، وكذلك اللعب على مفردات هذه اللهجة وتركيباتها، لخلق التغريب والمشاهد السوداوية، التي ذكرت بمسرح العبث. كما أن حبكتها بنيت على فكرة الانتظار، والثرثرة بلا نهاية، والانفجارات العصبية المثيرة بين الزوجين. قالت الزوجة في أحد حواراتها مع زوجها، معبّرة عن قلقها وخوفها من زوجها على نفسها وطفلهما “جنيّت؟” (هل جننت؟)، فيجيبها بما يشبه الغناء “مصيبة وقعنا فيها”.

كما أن المخرج استخدم الأضواء والموسيقى، وقرع الطبول البعيدة ليضيف بعدا آخر عمّق حالة القلق والترقّب عند المشاهد. وعبّرت المؤثرات الصوتية والإنارة الحمراء في “خلاكة” عن ازدياد التوتّر لدى البطلين، كما تميّز العرض بكثرة الحركة للتعبير عن وصول الأحداث إلى ذروتها.

المسرحية تجسد صراعا دراميا بين الأم الحامية لوليدها المشوه ووالده الخائف من الكابوس  المستكين للتقاليد

يؤدي الأب حركة غير مقصودة لتحريك طرف الخيمة، وهو يحاول تسويتها، لتقيهما الرياح وسفّ الرمال، فيتسبّب في سقوط العمود الصلب المُستخدم كوتد للخيمة على رأس الرضيع المشوه، وينهي حياته في مشهد درامي عنيف.

تنتهي الحياة المأساوية لهذا المخلوق الصغير، الذي لم يكن له الحظ في البقاء في هذا العالم المعزول، والمشبع أهله بالعادات والتقاليد التي لا تعين الضعفاء. ولا تشجّع على الوقوف معهم لتجاوز محنهم، بل تبحث عن أي سبب للتخلي عنهم كعبء ثقيل.

تحزن الأم الصحراوية لموت رضيعها، ولكن لا يظهر الحزن على وجه الأب، بل تظهر ابتسامة انتصار، وكأن غودو الصحراوي الذي ينتظرانه رفض المجيء إلى خيمتهما، وحل مكانه الموت كحل نهائي، ليضع حدا لمشكلتهما مع القبيلة.

المسرحية لا تنتهي نهاية سعيدة بعد دفن الرضيع، وعودة الزوجين إلى الأهل ليهنآ بالعيش في ربوعهم وكنفهم، بل بقي صوت بكاء الأم الثكلى برضيعها يتردّد في أرجاء المسرح، وهما يغادران عزلتهما متّجهين صوب أرض القبيلة.

17