فليقل خيرا أو ليصمت

السبت 2014/04/05

إذا أخطأت رصاصتك امرأة حساسة، فإنّ كلمة منك قادرة على قتلها! مثل موغل في القدم والمبالغة والتحيز لجنس حواء؛ إذ لم يعد في أيامنا هذه من يستخدم (رصاص) الكلام، بعد أن توجّه الجميع إلى مصانع الأسلحة الثقيلة واستدلُّوا على قطع ذات صلاحيّات لا تنفد لاستخدامها في ثورة الحوارات والسجالات العقيمة، فمدافع وصواريخ الكلام صارت وسائل مضمونة يستخدمها المتعصبون أو (العصابيون) رجالاً ونساءً، في معارك دينية واجتماعية وربما سياسية لتفتيت الرأي الآخر وتصويب ضربة عميقة و(كاسرة) لنفس ومشاعر شركائهم في الحوار.

وبعد أن لعبت المؤامرات السياسية، دورها الحتمي وفسحت المجال لخروج أفاعي الجهل من جحورها، تقلد المتعصبون مناصبهم الجديدة على رأس الجلسات والاجتماعات الرسمية وشبه الرسمية، العائلية وشبه العائلية، الاجتماعية وشبه السياسية، الديمقراطية أو التي تتشبه بالديمقراطية، فأصبحوا خطباء لمنابر وهمية ونصبوا أنفسهم أوصياء على عباد الله واختاروا الألفاظ الجارحة والنابية، في الدعوة لدينهم الجديد.

لم تعد الأرض مكاناً آمناً لأصحاب القلوب الحساسة، الذين يطرقون أبواب الجحيم ويتذوقون طعم اللهيب في كل مرة تطرق مسامعهم كلمات جارحة، تخرج بصورة عشوائية من أفواه أصحابها من دون تهذيب أو تشذيب، فالجار والصديق والقريب والشريك في العمل أو في مقعد الباص الحكومي، قد يتحول في لحظة ما إلى أفعى متعددة الرؤوس تبث سمها في جميع الاتجاهات من دون مقدمات أو مبررات.

في الماضي البعيد، تنبه المفكر والكاتب الألماني غوته إلى هذا الخلل القاتل في شخصية بعض الناس فكان يرى، أن القلوب الحساسة بإفراط هي قلوب غير راضية، لا تصلح للعيش على هذه الأرض.

ربما يكون الأمس على حق، لكن جروح اليوم أصبحت عميقة والإصابات قاتلة ولم تعد غرف العناية المركزة قادرة على استيعاب كل هذه الفوضى.

ويا ليته تصدّق بالكلام الذي نبت من فضة، لما تكلف هؤلاء الحمقى بهدر أموالهم فقط لإزعاج غيرهم، ولو عرفوا قيمة الكلام الطيب وكيف يربي الصدقات لما ترددوا لحظة واحدة في قطع ألسنتهم وغلق أفواههم بالشمع الأحمر.

“الكلمة الطيبة صدقة”، حديث نبوي متفق عليه والحمد لله، فالصدقة هنا لا تختص بالمال بل بكل ما من شأنه أن يقرب إلى الله سبحانه وتعالى. وفي حديث آخر للنبي محمد صلى الله عليه وسلم يأتي التأكيد على المعنى ذاته، ولكن بصيغة آمرة وحازمة: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ”.

والصمت امتحان عسير لبعض الناس، خاصة إذا شاهدوا ما لا يسرهم وما يثير كوامن الغيرة في أنفسهم؛ وهو داء لا دواء له إلا بنهاية حياة صاحبه بميتة طبيعية أو بإنفجار عبوة ناسفة غير طبيعية، أو بصفعة صاعقة من يد حليم تسنى له أخيراً أن يغضب غضبته الأخيرة.

وبحسب علماء الشريعة فإن كانت الكلمة الطيبة سجية للبعض، فهي من جنس الجنة لأن الجزاء من جنس العمل، والصابرون على السفهاء إذا تسنى لهم بعد طول عذاب دخول الجنة فهم لن يسمعوا فيها إلاّ الطيب الّذي لا يؤذيهم.

قال تعالى في سورة الواقعة: ” لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا” أي: لا يسمعون في الجنة كلامًا لاغياً غثاً خالياً عن المعنى، أو مشتملاً على معنى حقير أو ضعيف، لأن أصحاب هذا اللغو سيكونون – من دون شك- ضيوفاً مرحباً بهم في الجانب الآخر الجحيمي، الّذي لا قرار له.

حتما.. قطعنا طريقاً طويلة في دروب الجحيم، فأنصتنا بإسهاب وتحملنا عن طيب خاطر، فطفح الكيل ولا بأس ببعض المسكنات المؤقتة لترويض الألم النفسي، في انتظار نصيبنا من الثواب والعقاب.

الحكمة هذه المرة تأتي باردة وممطرة من مصادرها الإيرلندية العاصفة؛ حين ينصحنا “برنارد شو” برد الصاع صاعين والانقلاب على أصحاب اللغو وكتم أنفاسهم بالصمت المعلّم بابتسامة صفراء؛ فالصمت “هو أفضل تعبير عن الاحتقار”، هل جربتم هذه النصيحة؟

21