فن تحويل اللوحة الفنية إلى عملة نقدية

طرح الفن المعاصر علاقة إشكالية بين الفن والسوق، أي بين ما هو فني يروم الجمالية والتحرر من المادة وما هو مادي بحت “المال” ونظام السوق. علاقة تبدو في ظاهرها متضاربة، لكنها تكاملت بشكل غريب، فصار الفن مالا، مالا مخزّنا ومنظومة للربح. مزادات هنا وهناك لبيع لوحات أو أعمال فنية بمبالغ ضخمة في سوق يبدو الأغرب والأكثر إثارة للدهشة.
لم يكن خروج اللوحة من الكاتيدرائية إلى المتحف منفصلا عن خروج الرؤية من حضيرة المعتقد إلى جماليات البصري، إنه الانتقال الضارب في عمق المجتمع الحديث والعلماني، حيث أعيد إسكان النحت والتصوير والعمارة في مجال دنيوي، بصرف النظر عن الذرائعية الدينية.
من هذا المنطلق وضعت مؤسسات المتاحف مآلا، لا تقتصر وظيفته على استقبال الأعمال المصادرة من مجال القدسي، وإنما بالنظر إلى كونه نطاقا لعقيدة مستحدثة تنظر إلى الفن بوصفه شأنا مدنيا وتاريخيا وإنسانيا، لا يمكن أن يتجلى إلا في حيز من الملكية الجماعية الساعية لتحصين الذاكرة والعبقرية.
الفن والسوق
لا ينفصل ولع اقتناء اللوحات والمنحوتات والبروز التدريجي للمجموعات الفنية الخاصة عن تفاقم النزعة الفردانية في المجتمع الحديث والمعاصر، ونهمها إلى امتلاك ما هو جماعي، بوصفه وسيلة لتوسيع مصادر الثروة، كما لا ينفصل ذلك التحول من مؤسسة “المتحف العمومي” إلى المقتنيات الفنية للأفراد والشركات والبنوك عن فكرة الحجب والمصادرة وانتزاع الوظيفة الفنية، لحساب هاجس تضخيم القيمة في اتصالها بـ“الأسلوب” و“التوقيع”، من هنا ستنشأ أسواق الفن داخل حاضنة لصناعة الثروة يلتبس فيها الحقيقي بالزائف والنفيس بالمتمحّل والأصلي بالنسخة والمقيم بالعابر.
هل سينزع التداول المالي المتسارع في إيقاعه النسغ العقائدي للفن؟ ما هو ثابت أن ارتفاع وتيرة الاستهلاك في مجتمع السوق المعولم وما يتصل به من قنوات تستوعب الفن ضمن مآربها؛ من الإعلانات التجارية للسيارات إلى طرازات الموضة وتغليف السلع، عجّل بتحويل “المعرض” إلى تفصيل ضمن منظومة قائمة على مبدأ “ترويج المنتج”، هكذا يمكن فهم ذلك التلاحم الملحوظ في مجلات الفن الأوروبية والأميركية بين الموضة وعروض الفن المعاصر، مجلات مثل “تانك” و“فيري” وغيرهما، تمثل نموذجا للانزياح التدريجي لصورة الأعمال الفنية إلى الهوى الإشهاري، ولحساسية ترتاح للمجاورة بين التصاميم الجديدة للأزياء واختراقات الأسلوب المعاصر في التركيب، حيث الرواج مؤكد في سوق المنتجات الباهظة.
ارتفاع وتيرة الاستهلاك في مجتمع السوق المعولم حول {المعرض} إلى تفصيل ضمن منظومة قائمة على "ترويج المنتج"
لكن لنعد قليلا إلى مقولة قديمة لكارل ماركس حيث يرى أن السلعة معطى غريب ومعقد “لكونها شيئا ماديا يقدره المشتري لأن له نفعا، وفي الوقت عينه، بفضل حركة السوق، شيئا يحمل قيمة تبادل نقدية”.
وما هو مؤكد أن القيمة النفعية للفن لا يمكن فصلها عن الأسلوب وما ينطوي عليه من رؤية واعتقاد، نفعيته مجردة ومتعالية وخارج حسابات الوظيفي الصرف، المتجسد في البترول مثلا (وهو المثال الدال لارتباطه بالمضاربة)، لكن النفعية هنا تقاس بمقدار امتلاك الفن لقيمة “تبادل خالصة” قادمة من التجريد نفسه.
أستحضر هنا مقولة لمؤرخ الفن جوليان ستالابراس في كتابه عن الفن المعاصر حيث يرى في محصلة تحليله لارتباط الفن والنهم إلى الثروة في المجتمع الاستهلاكي أن “الفن يقترب، بما هو تجسيد مادي لقيمة التبادل، من حالة السلعة الأكثر تجريدية، وهي النقود، ويستخدم بالفعل كذلك من قبل الأثرياء كصورة شبه سائلة لرأس المال المضارب، بحيث تخبأ الأعداد الهائلة للأشياء التي تكمن فيها تلك القيمة بعيدا في مخازن آمنة، ومشيدة خصيصا لذلك الغرض”.
اللوحة كعُملة
بأي مسوغ يمكن أن تتحول اللوحة إلى عملة، خارج التقدير الاعتباري لصاحبها ولمضمونها؟ عملة قابلة للمضاربة والتعويم والتضخم وما يتصل بالمنظومة المالية من آفات، وما يرتبط بها أيضا من انحرافات، أستحضر في هذا السياق كيف كشفت واقعة اختفاء لوحات من المجموعة الفنية الخاصة للملياردير المغربي العلمي الأزرق، قبل أشهر قليلة، (ويقدر ثمنها بالملايين من الدراهم)، مرة أخرى، أن اللوحة هي أكثر الفنون التعبيرية ارتباطا بالجريمة، فثمة واقعة سرقة ارتبطت بتعويض اللوحات الأصلية بنسخ مزورة، وبتورط فنانين محترفين في واقعة إنتاج بدائل للأعمال الأصلية، فضلا عن السوق السوداء للفن التي تستوعب اللوحات المختفية، وكيف تسهم في عملية تبييض الأموال… كما كشفت الواقعة عن وجود مجموعات فنية تستثمر فيها الملايير للتهرب الضريبي، عالم معقد من الجرائم المركبة التي تلتصق بأكثر الفنون امتناعا على تبديد القيمة.
قبل سنة دُمرت لوحة “فتاة مع بالون” للفنان البريطاني مجهول الهوية بانكسي في دار المزادات الشهيرة “سوذبيز” بلندن، خرجت عن إطارها مرورا بآلة لتمزيق الورق مخبأة داخل الإطار في الوقت الذي هوت فيه المطرقة لتعلن بيع اللوحة بأكثر من مليون جنيه إسترليني.
كان المشهد صادما لجمهور الفن والمقتنين والمعارض، لكنه في العمق استبطن اللوحة الحقيقية، تلك التي تستعصي على المزاد، وغير القابلة للبيع، في الآن ذاته التي تمثل فيه مجرد سند هش منعدم القيمة النفعية، وفي عمق المشهد يمكن أن نطل على الحدود التي تشارف التمييز الاجتماعي المنقلب على جوهر الفن، حيث باتت الطبقات المتوسطة الحاملة لمشروع المجتمع الحديث والمعاصر بعيدة عن أفق امتلاك التحفة، في عالم حوّل كل مرتكزات الحداثة إلى قواعد لحراسة الثروة، من “الديمقراطية” إلى “الفن”.