عدوى الشعبوية

حين تعالت أصوات منادية بالديمقراطية في عالمنا العربي، ودخول هذا العالم عصر ما يسمى بالربيع العربي المستوحى من ربيع براغ، الذي أطلقه الغرب وقتها، فإن اتجاهات التغيير المرتجى لم تتأت من بنى وضرورات خلفتها مؤسسات رصينة، تضمن استمرار موجة التحولات نحو مجتمع أفضل، وأكثر عدلا وتطورا يتحصل فيها نموا ومستوى عيش منشود.
وهي ضرورات ما زالت تتحكم في مشهد المجتمعات العربية التي تعيش عصر الفوضى منذ التسعينات من القرن الماضي، حين عجلت بالإطاحة برؤوس حاكمة بسرعة البرق في معادلة التاريخ الحديث، الوئيد ذي الإيقاع البطيء سابقا.
لقد سادت حالة من الشعبوية التي توصف: بسيطرة رجل الشارع على رجل السياسة، التي أول من تنبأ بها الدكتور حامد ربيع منتصف الثمانينات في بغداد حين كان أستاذا بارزا في معهد البحوث والدراسات العربية وقتها.
وهي حالة تناقض الديمقراطية وتجب المركزية في عمل السلطة المتحكمة في المجتمع أي مجتمع، حتى أضحت وفق الباحث الألماني فيرنر مولر “نظرية الشعبوية يمكن أن تظهر غالبا كحركة ديمقراطية أو ديمقراطية راديكالية، لكنها في صميمها تقف على النقيض من الديمقراطية”.
إنها تدخل عالمنا العربي شأنه شأن العالم الأول بمواصفات مجتمع جديد معاد لحكم النخب، مناهض للتعددية وإن كان من خصال المجتمع وتأسيسه التاريخي.
وتظل فكرة التمثيل للمجتمع الواحد التي بدأت تغزو عقول التطرف والغلو التي تغذت من روافد تناقض فكرة تقبل الآخر حين قدم ليعيش وفق قوانين الانفتاح التي سادت سابقا. واندمج في بيئته الجديدة ليستوطن بعد أن تخطى مرحلة المساكنة وأنجب أجيالا من المواطنين الجدد، الذين لا يعرفون وطنا آخر بعد، يظنون أن لهم الحق في التصويت والانتخاب المكفول بالقوانين، دون توقع أن هناك متربصين من الأغلبية الصامتة الذين كبرت لديهم فجوة التمثيل في النهج الديمقراطي بالنظر إلى النخب الممثلة حتى وإن جاءت بطريقة ديمقراطية لا بد أن ينظر إليها عدائيا غير ممثلة، لأنها من أصول وافدة.
وهذا ما نراه حتى في مجتمعات العالم الأول الذي أنتج شعبويين يثيرون حماس العامة على أنهم أصحاب المصلحة الأولى في الحكم وهم وحدهم من يمثل الشعب الحقيقي، وأن المعارضين الآخرين ما هم سوى أشخاص نخبويين لا يدركون مصالح البلاد في الاستحواذ على المكاسب بأي طريقة وبأي ثمن.
هذه الظاهرة التي بدأت تتأسس كانت وراء إخراج بريطانيا في بريكست من الاتحاد الأوروبي والإمعان في محلية القرار وتصغير دائرة القرار، ليكون محليا شوارعيا، وليس نخبويا عقلانيا.