مدن وأنهار وتخاييل فنية

حين كتب بابلو كويهلو رواية “على ضفاف النهر جلسَت وبكت” لم يكن يلتفت إلى وقع النهر أساسا، وإنما إلى حال البكاء على الماء، وكانت الشخصية بوجود النهر أو بغيره، ستعيش بكائياتها، النهر تفصيل نثري لجعل النحيب جذابا، وهو شيء مختلف عن الوجود النهري في رواية “جسر على نهر درينا” لإيفو أندريتش، حيث النهر قاعدة الرواية المنتسجة حول سيرة جسر، قطع عقودا طويلة ناهضا وراسخا، منذ أن بناه السلطان العثماني إلى أن احترب على مدخليه المقاتلون في الحروب الأهلية والعالمية المتواترة. بدا النهر شاهدا على أحوال “سراييفو” وقومياتها ولغاتها وتجاورات أديانها وطوائفها.
ليس شهيرا نهر “درينا” الذي تخلده رواية أندريتش، ولا يقارن بـ”الدانوب” المخترق مدن “فيينا” و”براتيسلافا” و”بودابست” و”ريغنسبورغ” و”بلغراد”، الساكن روايات ولوحات وأفلاما خالدة. ربما تكون لوحة ألتدروفر ألبرتش المعروضة في متحف بودابست من أشهر تمثيلاته، عينة عن ولع أزلي بماء وضفاف ومدن استوطنت وجدان الألمان والنمساويين والرومانيين والمجريين، والعشرات من القويات المساكنة لسردياته وصوره وأساطيره. يقال إن الكنوز الدفينة به لا تحصى، منذ أغرق الألمان سفنهم الحربية حتى لا يغنمها الحلفاء، وحتى ثروات اليهود الذاهبين إلى اشفيتز… وبصرف النظر عن صدق الأزعومة أو زيفها، فالمؤكد أنه منطو على ذاكرة نفيسة حافلة بالرموز والمعاني.
يربط الدانوب مدنا ولغات وشعوبا مثلما تتناسخ عبر تمثيلاته الآلاف من الصور، يبدو هو الصلة الوحيدة بين كل تلك الأعمال المتباعدة، مثلما هو حال نهر “الرين” الواصل بين مدن فرنسا وألمانيا، ففي معرض احتضنه متحف “البوندسكوستال” بمدينة “بون” الألمانية تتراصف اللوحات الملتقطة لوجيب النهر في مسار حافل بالصراع والتنازع قبل أن يضحي مسارا للالتقاء الثقافي. يضم المتحف أعمال فنانين من قبيل ويليام ترنر ويوهان أدولف لاسينسكي التي تلتقط النهر في احتوائه لمدينة “كوبلنز” المطلة على قلعة “ايرنبرايتشاين”، ويتجلى النهر في مجمل تلك اللوحات بما هو الأصل والخلفية والقصد والمركز، في مساحة لونية تغوص فيها تفاصيل المدن؛ معمارها وجسورها وقلاعها وغاباتها وقوارب عابريها وألغاز ساكنيها، فيهيأ للناظر أنها مجرد صدى لصفحة رصاصية داكنة، هي صورة المجرى المتدفق دون حد.
تحضرني في هذا السياق تحديدا لوحة الفنان التشكيلي الروسي، إيليا ريبين ولوحته “قاطرو البواخر في الفولغا” النهر المخترق لموسكو وقازان وبيرم. تسعى اللوحة إلى تمثيل شخصيات منهكة لعمال قطر السفن بضفاف النهر، حيث ترتصف أجساد البحارة وتتداخل أجسادهم في حركة جر الحبل المشدود للكتلة الطافية فوق الماء، يبدون كمن ينحت مجرى للنهر الجبار، تتبدد الملامح والتقاسيم في حمأة الفعل المصارع للماء، قبل التيه مساء في متاهات المدينة.
وفي روايات بروست وموزيل ونجيب محفوظ تلتبس أحاسيس الشخصيات الساكنة لمدن باريس وفيينا والقاهرة، بإيحاءات أنهار “السين” و”الدانوب” و”النيل”، الوقوف على ضفاف النهر وتأمله، وعبور جسوره، تختصر زمنا روائيا غير هين، تعجن فيه الكلمات محمولات اللون والضوء والانعكاس المائي، وأحيانا يتحول النهر إلى بطل أخرس يستمع لفيض الفعل والحركة والكلام، أو يحتضن أسرارا لم تفش، ودارت بخلد الشخصيات وهي تشرئب إلى عمقه المظلم. يقول السارد على لسان البطل أنيس زكي في رواية “ثرثرة فوق النيل” لنجيب محفوظ “نحن نعيش فوق الماء فنهتز لوقع أي قدم”.
ما الذي يقوله النهر في المدينة تحديدا، ولا تقوله الأبنية والساحات؟ لماذا هذا الإصرار على التوزع بين ضفتين في مدن كان بإمكانها أن تنهض على امتداد لا يحتاج لجسور؟ ولماذا هذا الإدمان على الوجود بجوار مهدد بالغرق كل شتاء؟ تلك الأسئلة وسواها هي ما يمنح الأعمال النهرية/المدينية، قدرتها على النطق بلسان الخصوبة.
في إحدى فقرات رواية “إنانة والنهر” لحليم بركات نقرأ ما يلي “لم تكن [إنانة] بحاجة إلى كثير من التفكير، كي تدرك أن أهلها والناس حولها أرادوا منذ البدايات الأولى تدجينها،… تولعت خاصة بتصوير الوجوه والماء باعتبارها من أكثر الأشياء تحولا… وحين كانت تعود من سفراتها القصيرة… كانت تصغي للنهر في الليل وهي جالسة تحت الدالية… وتحلم أنها تطير فتحلق وتهبط مستغربة أنها تملك مثل تلك القدرة العجيبة”.
في هذه الرواية يلمس القارئ التلازم الوظيفي بين شخصية “إنانة” وفضاء النهر، تواجه إنانة إرادة الاحتواء الأسري، حيث أريد لها أن تتزوج قسرا، وتخوض في سبيل ذلك معارك ضارية، مثلما سيخوض النهر معركة حاسمة ضد آلية الإلغاء التي بدأت تحاصر البيئة، بالموازاة مع النفوذ المتصاعد للمال في مجتمع يتحول تدريجيا من إطاره الفطري المطبوع بقيم القرية إلى قاعدة استهلاكية عومت في بحيرة من المظاهر التحديثية الزائفة، وتدريجيا تبرز للوجود علاقات روائية عديدة، تمخر عباب الزمن والفضاءات والعقائد والرسائل المعنوية. ولن ترسو هذه العلائق عند مرفأ محدد، تتبدد فيه حدة الصراع بين البطلة ومقابلاتها الروائية، أو بين النهر ومحيطه الإنساني، ولكنها على النقيض من ذلك، تختار أن ترسو عند جزر تغذي في أغلبها آلية التنغيص، وبقدر تخلص البطلة من وظائف الانقياد اللاشعوري الخانع لمكونات التأزيم يُنتشل النهر من وهدة السقوط والاندثار.
ليست صدفة إذن تلك التي جعلت عددا كبيرا من المتاحف والمكتبات وأروقة العرض من باريس إلى براغ ومن موسكو إلى بلغراد ومن بودابست إلى القاهرة تطل على صفحة الماء المنقبضة دوما على سرها الخالد.