من وحي النكتة

بعض نكات الفلسطينيين قديم ومتجدد، بدأ ببريطانيا الانتدابية، في سياق فرّق تسد، بهدف تغذية النعرات وترويج الصور النمطية على سكان المدن والبلدات، وصولا إلى النوع الذي يشبه ما تنتجه مجتمعات تعاني من استبداد محلي فظ.
الأحد 2019/09/22
جموح السلطة وبغضاء المواطن لها ولزمنها

امتلكت الشعوب الرازحة تحت نير الاستبداد قدرة إعجازية على مدارة غضبها، واستخدام المسارب التحتية والفضاءات المفتوحة لتبادل الآراء والنكات. لذا يُفاجأ المُستبدون بحجم السُخط، كلما حدثت هبّة شعبية، أتيح فيها للناس إخراج ما في جوفهم.

وأكثر الذين فوجئوا من المستبدين، هم الذين أهملوا النكتة السياسية ولم يتتبعوها، ولم يأمروا عسسهم بجمعها من الأسواق والمقاهي وأماكن العمل، لعرضها عليهم. فهي جِدُ مفيدة، وينبغي أن تكون مشوّقة أيضا، ليس بسبب قدرتها على إضحاكهم، وإنما لكونها تؤشّر إلى أنواع المظالم المُغذية للاحتقان. ويمكن لصيادلة السياسة، أن يتعرفوا على الداء، من خلال نوع المهدّئ الذي تمثله النكتة. فالنكات في مقاصد إنتاجها، مهدئات دفاعية بالنسبة للمظلومين، تخفف آلامهم. وهذه يخترعها مبدعون أو ذوو مخيلات لا تخلو من مواهب فنية. أما عند أجهزة العسس التي ترعى إنتاجها، فهي هجومية، وموروثة من أيام المستعمر أو من يوالونه، هدفها تكريس الفوارق بين المناطق، وتعميم السخرية بينها باستغلال بعض التمايز الأنثروبولوجي بين سكانها، في العادات أو اللهجات.

وفي الحقيقة، لم يعد جائزا بعد عقود من رحيل المستعمر، أن ننسب مصادر إنتاج النكتة للأوساط الاستخبارية الاستعمارية حصرا، ما خلا المناطق الفلسطينية المفتوحة على كل من يريد النيل من تماسك مجتمعها.

بعض نكات الفلسطينيين قديم ومتجدد، بدأ ببريطانيا الانتدابية، في سياق فرّق تسد، بهدف تغذية النعرات وترويج الصور النمطية على سكان المدن والبلدات، وصولا إلى النوع الذي يشبه ما تنتجه مجتمعات تعاني من استبداد محلي فظ. فمن أبغض أشكال الاعتصار في غزة مثلا، فرض الضرائب وتحصيل الغرامات المالية من أناس فقراء، وهذا أحد أشكال الإكراه المُضني، الذي تفرضه سلطة حماس على الناس، ويقابله السكان بالتبرّم مع النكتة الساخرة التي ترسم صورة الفعل، وتنحو إلى وصف فاعليه، بأسوأ عبارات الوصف.

من بين ما أنتجته المخيلة مؤخرا، أن سيارة مرور، تبحث عن فرصة ضبط مخالفين لتغريمهم، لكنها لم تجد زبونا. فاقترح الشرطي على زميله، مهاتفة سائق سيارة الأجرة التي أمامه، وقد كتب صاحبها رقم هاتفه في خلفية السيارة. على أن يقع الضبط، مع رفع السائق الآخر الهاتف إلى أذنه، وفي ذلك مخالفة كاملة الأركان. وعندما سمع السائق المستهدف، رنين هاتفه، رد على الاتصال من خلال سماعة موصولة بالجهاز. عندئذ يحاول الشرطي المتصل تحقيق الهدف واصطياد الزبون، فيقول للسائق “لا أسمعك جيدا، قَرِّب الهاتف إلى أذنك”. يردّ السائق: لا أستطيع، فإن خلفي اثنين كذا وكذا. وبتلك الجملة البذيئة، يكتمل عنصرا الرسم: جموح السلطة وبغضاء المواطن لها ولزمنها!

24