أشرف الخمايسي: رسالة الإبداع المثلى محو عذابات الإنسان

لكل كاتب طريقه الذي يختاره، وطريقته التي يخط بها أدبه أو حياته، ولعل الكتّاب الأكثر تأثيرا هم أولئك الذين خرجوا عن الصورة النمطية للكاتب، وخرجوا عن دائرة علاقات الشلل والمجاملات، فلا هم مع هذا ولا هم ضد ذاك، متحررون لا يمثلون سوى أنفسهم وقناعاتهم. ومن هؤلاء الأديب المصري أشرف الخمايسي، الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار حول آخر رواياته.
لا يُمكن للمبدعين الصمت على أوجاع الإنسان في رحلته المحدودة على الأرض، فليست مُهمة الأدب الإلهاء والتسلية فحسب، وإنما رسالة الأديب المُثلى مقاومة عذابات الإنسان، والجأر بشكواه ضد الخوف والقهر والظُلم.
تلك رسالة أساسية يعتبرها أشرف الخمايسي دافعا للكتابة، وقد سعى إلى الجهر بها في رواية غريبة، غير تقليدية، سيُصدرها قريبا عن دار”إيبيدي” للنشر وتحمل عنوان “خروف وكلب”.
مشروع إبداعي مختلف
يقول الأديب المصري لـ”العرب” إن حرصه على الدفاع عن وجود الإنسان ورفض القهر كان وراء كتابته أحدث رواياته، وتحاول إعادة الاعتبار إلى حرية الإنسان وحقه في الاختيار والقبول والرفض بعيدا عن فكرة القطيع، وتعرض جانبا من الصراع الأزلي الدائر بين سلطة العقل وسلطة القوة.
أشرف الخمايسي روائي وقصاص مصري من جيل التسعينات، ولد في مدينة الأقصر، جنوب مصر عام 1967، وصدرت له خمس روايات، وثلاث مجموعات قصصية. وبدأ تجربته الأدبية بنشر قصص في جريدة “أخبار الأدب” القاهرية في منتصف التسعينات، وصدرت له بعد ذلك مجموعة بعنوان “الجبريلية”، ثم رواية بعنوان “الصنم” عام 1999 التي لاقت اهتماما كبيرا من قبل الأوساط الأدبية.
واعتزل الرجل الكتابة الأدبية فجأة عام 2000 وطال اعتزاله لأكثر من عشر سنوات، بعد أن انضم إلى إحدى الحركات السلفية خصاما للمثقفين، ثُم عاد إلى الإبداع مرة أخرى لينشر في 2011 مجموعته القصصية “الفرس ليس حرا”.
وفي 2013 نشر رواية “منافي الرب”، ويعتبرها النقاد أهم إبداعاته ووصلت الرواية إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2014. وفي العام ذاته، أصدر رواية “انحراف حاد” ووصلت كذلك إلى القائمة الطويلة للبوكر. كما أصدر مجموعة قصصية في 2015 بعنوان “أهواك” ثم رواية “ضارب الطبل” منذ عامين، ثُم رواية “جو العظيم” العام الماضي.
يدور المشروع الإبداعي للخمايسي عن ثنائية الخلود والموت، وحاولت رواياته السابقة، باستثناء “جو العظيم”، طرح فكرة سعي الإنسان الدائم للإفلات من الموت والبحث عن الخلود.
تُمثل الرواية الجديدة “خروف وكلب” خروجا عن المشروع الإبداعي للخمايسي، الذي سبق وأكد أنه يحاول من خلاله الانتصار على الموت.
ويكشف الخمايسي في حواره مع “العرب” أسباب خروج هذه الرواية عن مسار مشروعه الإبداعي قائلا “لقد شعرت أن الأديب يجب أن يكون له موقف في ما يعايشه من واقع موجع، لقد كان الاستغراق في فكرة مقاومة الموت يغريني، بسبب ميلادي ونشأتي في مدينة المعابد الخالدة؛ الأقصر، لكن انتقلت إلى القاهرة منذ سنوات، حيث استقر بي المقام وتابعت وعايشت مواقف ومشاهد كانت غريبة بالنسبة لي، فوجهت رأسي إلى ناحية عذابات الإنسان الكبرى”.
حسب رأيه، على الأديب أن يتفاعل مع ما يرى، ويكون له موقف فني وإبداعي مما يحدث حوله، “أصحاب فكرة الفن للفن أنفسهم، يرون أنهم مطالبون بالتعبير في الحقيقة عن موقف ما تجاه القبح”.
ويلفت إلى أن الأديب الراحل نجيب محفوظ استمد خلوده كمبدع من مواقفه السياسية الشجاعة ضد الدكتاتورية والقمع من خلال الفن المنطلق من فكرة الحرية، “لقد تكلم عندما صمت الناس، ورفض الاستبداد والتسلط على الجماهير، وظهر ذلك بقوة في الكثير من أعماله”.
يتابع الكاتب “إن من يدرس روايات محفوظ بعمق وعناية يكتشف كم كان مختلفا عن جيله، في الإخلاص لعمله كبنّاء لإبداع سياسي محكم لا يلتفت إليه، ولا يشعر به إلا متذوقو الفن الحقيقي، وكان الأديب الحائز على جائزة نوبل “مخلصا لفكرة اعتبار الأدب أداة مقاومة للاستبداد”.
ميلاد الفكرة
خص الخمايسي “العرب” بتفاصيل روايته الجديدة التي ما زالت في المطبعة، موضحا أنها تدور في إطار حيواني متكامل باستثناء راع يُدعى الحاج يونس. وتتلخص في أن الحاج يونس يعيش في صحراء غريبة بعيدا تماما عن البشر، ومعه قطيع من الماشية وبعض كلاب الحراسة، وعندما يشعر باقتراب أجله يفكر في من يختاره للقيام بدور الراعي بدلا منه.
وفي إحدى الليالي يهجم ذئب مفترس على المرعى، ويكون كلب الحراسة مريضا ونائما، لكن الخروف البطل يُقرر التصدي للذئب ويخرج ناطحا إياه بشجاعة تدفعه إلى الهرب، لذا يُقرر الحاج يونس اختيار الخروف ليحل مكانه بعد وفاته.
ورغم ذكاء الخروف، وتعقله وأنفته، فإن الكلب يعتبر نفسه أفضل منه لأنه المسؤول عن الحراسة، وهو رمز القوة. ويرفض الكلب اعتبار الخروف قائدا للمرعى، ويبدأ في جمع الكلاب الضالة ضده، وتخويف قطعان المرعى من هجمات محتملة للحيوانات المفترسة، وتحاول الرواية تقديم جانب آخر للسمات الحيوانية المغلوطة، والتي تجعل الكلب مفضلا عن الخروف.
يكشف الروائي المصري أنه استفاد في روايته من عمله لعدة سنوات، خلال تغريبته الاختيارية عند هجرانه للأدب، كراعي غنم في صعيد مصر الحار، ولمس بصدق خلال تلك السنوات نبل الخرفان واعتزازها بذاتها ورومانسيتها وشجاعتها.
ويتابع قائلا “لا يوجد قانون كوني مطلق يقول إن الكلب أفضل من الخروف، فالخروف يبعث بمنظره البهجة والسرور، وأنثاه تجلب اللبن، لكن الكلب موصوم بالخضوع والدنو في الكثير من الآداب العربية”.
ويؤكد أشرف الخمايسي أن الرواية لم تستوح أحداثها من رواية “مزرعة الحيوانات” للأديب العالمي جورج أوريل، كما يتصور البعض، وإنما هي فكرة نابعة تماما من الخيال، لكنها تتشابه في رمزيتها مع قصص “كليلة ودمنة” للأديب الهندي بيدبا، والتي نقلها إلى اللغة العربية عبدالله بن المقفع في القرن الثاني الهجري خلال عصر الدولة العباسية الأولى.
ويلفت إلى أن لدينا في التراث العربي الكثير من القصص الرائعة، غير أن آفتنا وربما آفة الشرق كله الوله الدائم بكل أعمال أدبية غربية.
يقول إن العمل يمكن أن يُقرأ كحكاية للتسلية، ويمكن أن يقرأ كقصص أطفال، أو حتى فكرة فلسفية، وتمكن أيضا قراءته بإسقاط إنساني قد يرى فيه البعض إحالات سياسية، لكنه يرى أن الروائي غير معني بتحديد حقيقة قصده من إبداعه.
ويشير إلى أن الأديب هو كل شيء في هذا العالم؛ الطبيب للمريض، والمبهج للمهموم، والمناضل للسياسي، والمحب للإنسان أينما كان، يرى “أن الإنسان بحقوقه الفطرية في الحرية والاختيار والبحث والدراسة والقبول والرفض، هي محركه الحقيقي لأن يُبدع رواية ما”.
الحرص على الدفاع عن وجود الإنسان ورفض القهر كان دافعا لأشرف الخمايسي ليكتب أحدث رواياته بشخصيات حيوانية
يوضح الخمايسي لـ”العرب” أن كتابة الرواية استغرقت سنة كاملة، وفكرتها زارته فجأة وهو منهمك في كتابة رواية بعنوان “نواضح يثرب” تتناول قصة النبي محمد (ص) بشكل فلسفي جديد، ولمعت الفكرة أمامه وهو يتصور أن الشر ليس شرا مطلقا، ما دفعه إلى إيقاف عمله الأدبي تماما، والاستغراق في العمل الجديد.
ويضيف “كان العنوان لطيفا وموفقا ولاقى إعجاب الناشر وشعرت بتفاعل القراء والمتابعين معه سريعا، وأرى العنوان بكلماته وهو ينطق أمامي، وشعرت بصدى الكلمة في أذن مستقبلها، وتصورت أن الخروف يُعبر عن الكثير من البشر المسحوقين رغم أحقيتهم في التقدم والسيادة”.
إذا كانت الرواية الأحدث نقلة نوعية في مشروع أشرف الخمايسي، الذي وصفه الروائي إبراهيم عبدالمجيد في إحدى الندوات الأدبية في القاهرة، بأنه رب السرد في الأدب المصري الحديث، فإنه لا ينفك عن فكرة الانتصار للوجود الإنساني بتعدده وتنوعه.
وإذا كان الرجل مرّ في الماضي بتجربة انخراط في التطرف من خلال الانضمام إلى الحركة السلفية كنوع من الاحتجاج على تعالي المثقفين عن قضايا الإنسان، فإنه يرى أنه استفاد من التجربة بمعايشة أناس آخرين يمثلون أحد أوجه الإنسان.
ويؤكد أن السلفي ليس هو صاحب اللحية والجلباب، والمتجهم تجاه الناس، الذي يرى الآخرين كفارا ويحتقر المرأة فقط، فالسلفة الحقيقية هي الحياة الفطرية، والانخلاع عن الماديات والارتداد إلى الطبيعة البكر”. ولم يستطع الاستمرار منعزلا أو منغلقا في دائرة السلفية، ويعتقد أن الحياة تكون أفضل بالتعدد وتستحق الاستمتاع بها.
يقول الخمايسي “التحيز للإنسان أولا وأخيرا هو الباعث على الانتقال من فكرة إلى فكرة، مكررا أنه على استعداد للدفاع عن أي وجود بشري مهما كانت معتقداته لأن الإنسانية نابعة من أصل واحد”.
وأكد أن “الإبداع خالد وغير قابل للقمع والقهر كما يتصور البعض، ويعتقد أن التيار الديني في العالم العربي الذي يرى أنه قادر على تقييد المبدع واهم، لأن طاقة الإبداع غير محدودة، والمبدع كائن عملاق، بينما الأصولي رجل هش لديه فكرة واحدة ووحيدة”.
أديب مختلف
الخمايسي متزوج ولديه أبناء أكبرهم يبلغ 23 عاما، ويعمل في مجلة الثقافة الجديدة، وهو أحد الروائيين القلائل في مصر الذي يقول إنه يعيش من الأدب، بسبب جمهوره الكبير.
ويمثل الخمايسي نموذجا مختلفا عن الكثير من الأدباء في تعاليه على المؤسسات الرسمية وتعدد آرائه النقدية اللاذعة التي يبثها عبر صفحته على فيسبوك، أو عبر حواراته المحدودة مع وسائل الإعلام.
يأخذ البعض على الرجل صداماته المتعددة في الوسط الأدبي وإصراره على رفض المجاملات الأدبية، ويطرح آراءه بصراحة وصدق حتى في أصدقائه، ويضعه ذلك في مرمى هجوم جيل الوسط والشباب من الأدباء.
يذكر الخمايسي أنه كون رؤاه الفكرية والأدبية، وطور أساليبه اللغوية من خلال قراءة الكثير من كُتب التراث العربي والغربي، مثل كتب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، و”كليلة ودمنة”، “الحيوان” للجاحظ، و”الكوميديا الإلهية ” لدانتي، فضلا عن أعمال الرواد الكبار، مثل ديستوفسكي، مكسيم غوركي، تشارلز ديكنز، وإرنست هيمنغواي، وأعمال رواد الأدب الحديث مثل غابرييل غارسيا ماركيز، إيزابيل الليندي، وباولو كويلهو.
ويضيف لـ”العرب” أنه متفق مع أهمية تحويل الأعمال الأدبية التي تستحق إلى أعمال درامية وسينمائية، غير أنه يفضل أن يكتب السيناريو والحوار للعمل شخص آخر، بخلاف صاحب العمل لأن الأعمال الفنية تحتاج إلى تمازج رؤيتين معا.
ويحكي أنه كتب في بداية مشواره الأدبي مسلسلا تلفزيونيا بعنوان “لهب النار”، واتفق مع المخرج الراحل وفيق مجدي على تنفيذه، لكن الرقابة اعترضت عليه لأنه كان يتناول تفاصيل كيفية صناعة الإرهابي، وبعدها لم يكتب سيناريوهات درامية.
عن طقوسه في الكتابة قال إنه يكتب متى شعر برغبة في الحكي، ويفضل الكتابة في الصباح على المساء، وفي الصيف على الشتاء، ولا يحتاج سوى إلى مشروبه المفضل وهو الشاي عند بدء العمل، وإن بدأ لا يتوقف إلا بعد شعوره بالرضا التام، وأحيانا يعود إلى قراءة نص ما لا يشعر بالألفة معه فيحذفه تماما.
وينغمس في معظم أعماله في أحداث القصة ليشعر بأنه أحد شخوصها، ويتآلف مع الحاسب الآلي الشخصي، الذي يكتب عليه وكأنه صديق عزيز، وكان يبتهج سابقا بالقلم والورقة، وبعد اغترابه عن الأدب وعودته تركهما واعتاد على الحاسب الآلي.