التجييش الشعبوي.. جناية التواصل الاجتماعي على حق المعرفة

لا يختلف كثيرا تقدُّم التحديث على الحداثة، أو تزامنهما معا. ففي مصر اكتسح التحديث، في صورته الإلكترونية وذروتها طغيان الهواتف الذكية، قبل محو أمية أبجدية لنحو 30 بالمئة من المواطنين، ويصبّ ذلك في مجرى أي تجييش شعبوي ديني أو وطني يعتمد على الصور ومقاطع الفيديو.
وفي الولايات المتحدة، حيث جاء التحديث تاليا لفلسفة الحداثة وتمثيلاتها، كان صعود دونالد ترامب تجسيدا لقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على تغذية مشاعر نفسية واحتياجات معيشية لدى الجماهير؛ فتستجيب وتتأثر.
وعلى الرغم من استنكار نخبوي سبق انتخاب ترامب، وانتقاد دائم لسلوكه وأدائه العام وخطابه السياسي والتلويح أحيانا بعزله، فإنه سيفوز بفترة رئاسية ثانية، في هزيمة جديدة لإعلام تقليدي غافله أيضا هذا اللوياثان الشعبي وحمل بوريس جونسون إلى رئاسة مجلس الوزراء البريطاني. ترامب وجونسون مبتدأ وخبر.
وكلاهما ليس حاويا أو مهرجا في سيرك.
رجل الأعمال ترامب ليس ساذجا؛ كما صورته صحافة لم تعد تؤثر كثيرا. لديه منذ شبابه مشروع، وفي ذلك الوقت كانت الكويت عنوانا للثراء في الخليج، وقال في برنامج أوبرا وينفري إن “أفقر شخص في الكويت يعيش مثل الملوك، ومع ذلك لا يدفعون لنا. نحن نجعل بيع بترولهم أمرا ممكنا، فلم لا يدفعون 25 بالمئة من هذا الدخل؟”. وسألته أوبرا عما إذا كان ينوي الترشح للرئاسة؟ وبدلا من إجابة قصيرة بلا أو نعم، مصحوبة بما يسوّغ قراره، فإنه مهّد المشاهدين نفسيا للاقتناع بوجهة نظر محددة “في الغالب لن أفعل. تعبت مما أراه يحدث لهذا البلد، وكيف أننا نجعل الآخرين يعيشون مثل الملوك، أما نحن فلا”. وسألته عما ينسب إليه من فوزه برئاسة الولايات المتحدة إذا نافس عليها؟ فأجاب “لا أخوض تجربة لأخسر. إذا قررت القيام بذلك، فأعتقد أن فرصتي في الفوز كبيرة جدا. لأنني أعتقد أن الناس سئموا من السرقة التي تتعرض لها الولايات المتحدة. لا أعد بشيء، ولكني أخبركم بشيء واحد: سوف يحصل هذا البلد على الكثير جدا من الأموال من هؤلاء الذين استغلوه لمدة 25 عاما”.
جرى ذلك عام 1988 في لقاء تلفزيوني يحتاج إلى استوديو مجهز، وفريق إعداد وفنيين وأجهزة بث. والآن لا يتطلب الأمر أكثر من دقيقة يكتب فيها ترامب تغريدة تُربك العالم، وتؤثر أكثر من صحف وفضائيات تستثمر التغريدة نفسها مادة لمقالات وبرامج. الرجل، وهو ابن سوق ويجيد قراءة الذهنية الجماهيرية، ربما أدرك هذا الأمر، وجعله يستعلي على الصحافة ويبغض وسائل الإعلام عموما؛ اعتمادا على جمهور يعرفه، ووعده قبل أكثر من ثلاثين عاما باسترداد “السرقة التي تتعرض لها الولايات المتحدة”.
ولا يعود ترامب من جولاته، أو استقبالاته في البيت الأبيض لمسؤولين في الخليج، إلا بما وعد به من مليارات يراها حقا لبلاده. فماذا يريد مواطن أميركي، غير معنيّ بالعالم الخارجي ولا يشغله تقصّي الحقيقة، أكثر من هذا؟
الرسائل التي تستهدف مغازلة مطالب شعبية، وتهيج مشاعر الجماهير وتوجهها إلى تبنّي موقف محدد في قضية ما، لن تمر ببوابات. تنطلق مباشرة وسريعا كمقذوف رصاصة، من المرسل إلى مستقبلين لم يكن الإعلام التقليدي يحقق لهم فرص المشاركات التفاعلية. كانوا فرادى، والآن يمكنهم أن يشاركوا في مرحلة ما بعد تلقي الرسالة، ويتجادلوا ويبرز منهم قادة رأي يساعدونهم على دعم وجهة نظر معينة. وبالتفاعل والمشاركات للرسالة الأصلية يضمن المرسل أصوات الملايين في ساعة أو أقل.
يسهل ضمان النجاح لنوعين من الخطابات الشعبوية. أولهما ما يعد برخاء ما، وتحسين ظروف صحية، وتخفيف أعباء ضريبية ومعيشية. وثانيها ما يثير رعب الجماهير، ويحشد أدلة وقرائن حقيقية ووهمية تعزز الخوف، ثم يطمئن الجماهير بالقدرة على الحل، وامتلاك وسائل مواجهة هذا الخطر، وفي الوقت نفسه يوجه أصابع الاتهام إلى عدو لن يكون لدى الجماهير وقت للحكم عليه، والتأكد من صحة الاتهام أو زيفه؛ فالخطر القريب لا يتيح للجموع هذا الترف.
من التعليقات المبكرة للرئيس الأميركي جورج بوش، عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، أن مرتكبي الجريمة إما أنهم عرب أو غير عرب. والمواطن الأميركي أمام هول الكارثة لن يتذكر إلا “أنهم عرب” وينسى بقية الجملة. وبدافع هذا الخوف أعيد انتخاب بوش فترة ثانية. فهل كان ذلك سببا في مفاجأة البريطانيين وأوروبا والعالم بوصول بوريس جونسون، النسخة الترامبية غير المزيدة غير المنقّحة، للإقامة في 10 داوننغ ستريت؟
حين كانت بريطانيا إمبراطورية تستعد لمدّ نفوذها شرقا وغربا، كانت الولايات المتحدة تستعد للإفاقة ذات صباح، وأدركت أن الوقت آخر النهار، وكان عليها أن تحرق المراحل. جونسون يعي هذا الفارق، ويعرف أن جمهوره على صلة بالعالم. وبحكم قدومه من عالم الصحافة والتأليف، ظل يخاطب هذا الجمهور بوسائل ورقية تقليدية، ويلحّ على الإسلاموفوبيا، وقد تابع أغلب المواطنين جرائم من هذا النوع، وبعضهم سمع مقطع فيديو باللغة الإنكليزية لمهووس يبشر بخليفة للمسلمين يطبق الشريعة، ويحلم بجذب حبل لعلم “لا إله إلا الله” فوق بيغ بن، وإلزام بريطانيا بدفع الجزية، وإجبار نسائها على النقاب وأولهن الملكة إليزابيث. في هذه الأجواء يصدر جونسون ما يسميه رواية عنوانها “72 عذراء”، وهو رقم يؤكده سفهاء ويعدون به “الشهداء”. وعلى هذه الأسطورة يؤسس جونسون رؤية يعممها على المسلمين زاعما أنهم أسرى الشهوات، من شهوة القتل إلى شهوة الجنس في الجنة. صدرت الرواية عام 2004، إلى الآن يتبنى ما فيها من إساءة للمسلمات ممن اخترن ارتداء النقاب.
في أميركا وبريطانيا أدى الإعلام دورا في شعبوية ربما تكسب أرضا أوروبية جديدة. فما الذي يدعو قطاعات عريضة من المصريين إلى الاستجابة لهذه الروح؟ إنه خوف يدفع إلى احتمال الغلاء والقبضة البوليسية، ويرى ذلك بديلا للفوضى، ولكن الأزمة الاقتصادية صاحبها امتلاك وسائل قوة تعجز عن الإسهام في التوعية، وبلغ عدد مستخدمي الإنترنت عن طريق الهاتف 24.6 مليون في نوفمبر 2017، وارتفع الرقم في يناير 2018 إلى 34.4 مليون.
ديمقراطية نوعية تمنح الحالمين بالطمأنينة قشورا من معلومات تمررها أجهزة سرية، وتحمّلها برسائل الخوف. وتعجز جيوش الأميين عن التثبت، فهم ضحايا المحذّرين من الخطر على الدين أو الوطن، هم الرصيد الإستراتيجي الضامن لاستمرار أي نظام يميني، يتسيد فيه أميون بحكم أميين.