القوة البرلمانية تحمي النهضة من أي رياح تونسية معاكسة لمسارها

حركة النهضة اليوم تضع شروط التفاوض مع طالبي التحالف معها على أساس أنّ البرلمان القادم لن يخرج من قبضتها، وقد يفسر هذا الأمر الوقت الطويل المقضّى في اختيار أسماء رؤساء القائمات وأعضائها، مع ما أنجز عنه من مناكفات عرّت حقيقة وحجم التجاذب الحاصل في الحركة.
الأربعاء 2019/07/24
القبض على الحكم من البرلمان للسيطرة على بوابة التشريع والتحكم

لا تزال حركة النهضة متمسّكة بالإستراتيجية الانتخابية والسياسية المعتمدة منذ 2013، والكامنة في “السيطرة على مقاليد الحُكم مع حضور نسبي في السلطات الحاكمة”.

منذ سقوط حكومة علي العريّض، على وقع رفض سياسي ومدني واسع لحكم الترويكا وبفعل مشهدية إقليمية ودولية واسعة باتت تنظر إلى الإسلام السياسي من زاوية التحفظ والاستدراك، وحركة النهضة متشبثة بمُعادلة “الحكم في مقابل الحكومات” ومقاليد السلطة البرلمانية في مقابل حقائب السلطة التنفيذية”.

لا تعني هذه الإستراتيجية أنّ حركة النهضة ترفض الحكم في صيغته المباشرة، أو تأبى توزير أبنائها، ولكنّ القاعدة السياسية التي بنت عليها النهضة مسلكيتها طيلة خمس سنوات على الأقل، متمثلة في القبض على الحكم بمعناه البرلماني العميق والسيطرة على بوابة التشريع والتحكم في مسارات الحكومة مصادقة أو طعنا.

دخول رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في السباق الانتخابي البرلمانيّ، يتنزّل لا فقط ضمن الانخراط القوي والثقيل للنهضة في السلطة التشريعية القادمة، بل وينخرط أيضا في مساعي الحركة إلى تنصيب رئيسها على رأس البرلمان القادم.

وبغض النظر عن المرامي الرمزية لإيصال الغنوشي إلى رئاسة البرلمان، إلا أنّ الخطوة تشير إلى دلالات لا بد من التوقف عندها مليّا. لعل أهمها أنّ الحركة التي سبق لها وأن تخلّت عن رئاسة المجلس التأسيسي في 2011، ولم تطالب بها في خضم انهيار كتلة نداء تونس وتشققها وتصدّر كتلتها للبرلمان في 2017، ستفرض على المتحالفين معها معادلات وشروطا سياسية على رأسها رئاسة الغنوشي “الغرفة البرلمانية”.

ولئن كانت النهضة قد قبلت تقريبا بكافة شروط نداء تونس، من حيث رئاسة الحكومة والوزارات السيادية ورئاسة البرلمان، قصد الدخول في تحالف سياسيّ يجنبها النموذج المصري ويحفظ وحدتها من العواصف الإقليمية والدولية، فإنّ انطباعا يسري اليوم ضمن قيادات وقواعد الحركة بأنّ زمن “تصدّر المشهد السياسيّ قد أزف”.

وهو انطباع مبني على مؤشرات الانتخابات البلدية السابقة، وعلى محافظة الحركة على “الخزان الانتخابي الصلب” الذي يمكّنها من مقاعد لا بأس بها، والأهمّ من كل ما سبق ضعف المُعارضات الكلاسيكية الكبرى في روافدها اليسارية والدستورية، وانكفاء اتحاد الشغل على الدخول في الاستحقاق الانتخابيّ، والحاجة الوظيفية لها من قبل باقي الكتل البرلمانية لتكوين الغالبية السامحة لتكوين حكومة.

تضع النهضة اليوم شروط التفاوض مع طالبي التحالف معها، من “العصافير النادرة” على أساس أنّ البرلمان القادم لن يخرج من قبضتها، وقد يفسر هذا الأمر الوقت الطويل المقضّى في اختيار أسماء رؤساء القائمات وأعضائها، مع ما أنجز عنه من مناكفات عرّت حقيقة وحجم التجاذب الحاصل في الحركة.

على هذا الأساس، سيكون لحركة النهضة اليد الطولى في تزكية الوزراء وسحب الثقة عنهم وهو ما لم يحصل ضمن الحكومات السابقة، وسيكون لها أيضا موقف وازن في السياسات الإقليمية والدولية، وهو ما لم يجر ضمن رئاسة الباجي قائد السبسي.

بعبارة أدقّ، حقبة “اتفاق باريس” الذي فرض على الحركة تجرّع كأس السمّ، وأجبرها على إسناد ظهرها إلى الحائط، والشخصية الكاريزماتية التي حوّلت اللحظة السياسية المواتية إلى كتلة تاريخية تحت عنوان “نداء تونس”، كلاهما باتا خارج التأثير السياسي المباشر وبمنأى عن مُعادلة الحكم القائم والقادم.

وطالما أنّ المشهد السياسي التونسي، مُفعم بالوجوه الراكضة وراء المنصب والمهرولة وراء الكرسي والقابلة لكافة الشروط في سبيل تذييل اسمها بسعادة الوزير أو فخامة الرئيس، فإنّ النهضة لن تبحث عن العصافير النادرة بل ستبحث عن “ذكر النحل” الذي يُقضى عليه بمجرد تأمين وظيفة التلقيح.

وفي حالتنا هذه، ستُناط بـ”ذكر النحل”، مسؤوليات، القبول باليد الطولى للنهضة في السياسات والحُكم دون حتمية مشاركة كبرى في الحكومة، وفي السياسة الخارجية دون ضرورة تشريك أبنائها في السفارات أو القنصليات، وفي تحمّل مسؤوليات الفشل الحكومي أمام الرأي العام دون تشبيك للنهضة في مخرجات التقصير.

تريد حركة النهضة، قواعد وقيادات، لمرحلة ما بعد انتخابات 2019، أن تكون مزيجا بين صلاحيات النهضة الواسعة في الترويكا السابقة، وبين انكفائها التكتيكي في حكومات ما بعد 2014، “فثنائية الإحجام التكتيكي المعلن والإقدام الاستراتيجي العميق” يبدو أنها باتت مسلكية نهضاوية في الحكم، تستحق من المتابعين الكثير من القراءة والتمعّن.

لا يبدو أنّ أمام النهضة ورئيسها راشد الغنوشي من عوائق حقيقية دون، الاستفراد الناعم في الحكم، ودون استدرار “ذكور نحل” ينتهون بمجرد الانتهاء من وظائفهم المطلوبة منهم، ولكنّ الدرس السياسي يعلمنا أنّ الكثير من حسابات الحقل تأتي دائما مخالفة لحسابات البيدر.

9