الزمن.. سائق ماهر

الزمن، هو العدو والصديق في آن واحد نشقى بوجوده ونشقى بغيابه؛ عدونا الذي يسبقنا إلى نهاية الأشياء بينما تعلق خطواتنا القصيرة في مطب مفاجئ وهي لا تزال تراوح في البدايات.
الجمعة 2019/05/31
الزمن، صديقنا الذي يحتوينا

ماذا تتوقع أن يكون الاختراع الأكثر جاذبية في المستقبل القريب؟

بعيدا عن أبحاث وتكهنات المتخصصين، هذا السؤال يمكن أن يطرحه المرء على نفسه بعفوية أو يسمعه ببساطة في جلسة مع أصدقاء.. فمع تسارع التطور الذي يشهده العالم، التطور الذي يقطع الأنفاس ويشوش الأفكار، قد تكلفنا إغماضة جفن متابعة الآلاف من الأخبار والأحداث والابتكارات التي تجري في عالمنا اليوم أو حتى البحث في أسبابها وتقصي نتائجها.

من المرجح أن يكون اكتشاف دواء لتخفيض الوزن هو الصرعة الأكثر مواءمة للتطور المذهل في مجال البحث العلمي. من الناحية الصحية والجمالية، تشكل السمنة هاجسا يقض مضجع الكثيرين وأولهم الأطباء طبعا.. فماذا لو خرج علينا أحدهم يوما ما بحبة دواء تستطيع أن تذيب كل الدهون التي راكمتها أجسادنا في لحظات سهو وانفعال غير محسوبة؟ وإذا حدث هذا الأمل، كيف ستكون أشكال الناس يا ترى.. هل سيصبح شكل الشارع مملا وهو يعج بأصحاب الأجساد الرشيقة فقط، مثلما تحولت شاشات التلفزيون والشوارع في أيامنا هذه إلى وجوه بشرية لسيدات يتشاركن الأنف والفم والجبهة ذاتها، بفعل عمليات تجميل متطابقة؟

عبّر زميلي في العمل، قبل عقدين من الزمن، عن رغبته في أن تتحول وجبات الطعام بأطباقها المتنوعة إلى مجرد أقراص بلا ملامح تشبه حبات الدواء أو الفيتامينات التي تحمل خلاصة المواد الغذائية، من دون الحاجة للطباخين والمطابخ والتسوق والصحون وغسل الصحون طبعا، فالوقت أثمن بكثير من أن نضيعه في كل هذه التفاصيل؛ وقت يمكن أن نمضيه في إنجاز أعمال أكثر أهمية!

بدت رغبته في تلك اللحظات مزحة ثقيلة، فكيف يمكن أن نستغني عن متعة تحضير الطعام وتناوله، مواعيد اجتماع أفراد الأسرة على مائدة واحدة، زيارة مطعم يقدم أطباقا مميزة أو حتى تناول قطعة حلوى مع فنجان قهوة في مقهى على شارع تجاري؟ كيف يمكننا أن نستغني عن كل هذه الطقوس، مقابل حبة واحدة من دواء نبتلعها بجرعة ماء فاترة؟

مرة أخرى، تدور التكهنات حول فكرة واحدة.. حبة دواء. دواء يقضي على السمنة، دواء يختصر وجبات الطعام، دواء يقضي على الصداع، دواء يخدر الألم، دواء للذاكرة وآخر للنسيان، ونحن نتنقل كالمنومين مغناطيسيا بين هذا وذاك، بينما تحاول زوبعة الزمن أن تبتلعنا فتحيلنا إلى مجرد ذرات من تراب بلا ذاكرة ولا جدوى. يحرك الزمن مقوده بحرفية سائق ماهر يعرف الدرب ويحسب السرعات بدقة.

الزمن، هو العدو والصديق في آن واحد نشقى بوجوده ونشقى بغيابه؛ عدونا الذي يسبقنا إلى نهاية الأشياء بينما تعلق خطواتنا القصيرة في مطب مفاجئ وهي لا تزال تراوح في البدايات.. الزمن، صديقنا الذي يحتوينا، الإطار الذي نتحرك داخل حدوده بنظام وحساب وتوقيت محدد حتى لا تضيع أقدامنا في النهايات. مخيفة جدا هذه الفكرة؛ أن نقفز على حبال الزمن ونراوغ في المسافات ونختصر في الخطوات، من أجل أن نبلغ نهاية لا نستسيغها. وبين هذا وذاك، لا شيء سوى أيام فاترة تسجل عدد خطواتنا على رصيف الكون، أيام بلا لون ولا نكهة مصيرها النسيان. فما الذي تستطيعه حبة دواء صغيرة.. غير أن تقدم خطوة وتؤخر أخرى، تقدم حياة وتعجل بموت؟

21