تونس.. طبقة حداثية خذلت مشروع المساواة

ما الذي منع الكتل البرلمانية من غير النهضة أن تصر على طرح المشروع على التصويت في الجلسة العامة، سيما وأن الكتل النيابية المؤيدة للمشروع تحظى بغالبية مريحة قد تصل إلى الثلثين.
الثلاثاء 2019/05/21
نحو "إصلاح مجتمعي" خارج منظومة النص الديني

إن لم نجزم بأنّ مشروع المساواة في الميراث في تونس قد تعرض لعملية إجهاض، فيمكننا التأكيد أن المشروع في حالة تجلط تام قد تصعب كافة محاولات إنعاشه من جديد في ظل البرلمان الحالي ومنظومة الحُكم القائمة.

ما أشارت إليه بشرى بلحاج حميدة، رئيسة لجنة المساواة والحريات الفردية، في حديثها الصحافي عن “استحالة” عرض المشروع على الجلسة العامة للبرلمان في دورته الحالية، مُرجعة هذا الاستعصاء إلى “الفيتو” الذي رفعته حركة النهضة ضده، يؤكّد أنّ مشروع “التناصف في الميراث” لن يرى النور على المدى القريب والمتوسط على الأقلّ.

ولئن صدقت هذه المؤشرات والمقدمات، فيبدو أنّ الرئيس الباجي قائد السبسي سيُغادر قصر قرطاج بولاية رئاسية فقيرة سياسيا ومحدودة اجتماعيا وحقوقيا، وبعهدة لم تؤمن له ما كان يصبو إليه منذ العام 2011، أي نحت نموذج الرئيس المصلح سياسيا والإصلاحي اجتماعيا.

وقد تكون هذه الغائية هي حجرة العثرة في المشروع، فقائد السبسي أرادها البوابة التي من خلالها يغادر السياسة ويدخل التاريخ، ويتجاوز اللحظة الراهنة التونسية من أجل الانخراط في الزمن الإصلاحي العربي والإسلامي، إلا أن الكثير من الرياح عصفت بما لا تشتهيه سفن الرئيس.

وبان من الواضح منذ اللحظة الأولى لطرحه، أن التكاليف السياسية والمقتضيات المدنية للمشروع، أكثر عمقا وأوسع امتدادا من تصويت على المساواة في إرث العائلة الواحدة.

فمقتضيات المشروع كانت تبدأ من “إصلاح مجتمعي” خارج منظومة النص الديني سواء بمقاصدية أحكامه أو بروح نصوصه، ولا تنتهي عند تغيير طابع الدولة من دولة دينها الإسلام ولغتها العربية، إلى دولة مدنية صرفة من حقّها التقنين خارج منظومة التشريع الإسلامي.

ولئن تحدث قائد السبسي أكثر من مرة عن الطابع المدني للدولة التونسية، وعن الفصل التام والهيكلي بين الديني والمدني، في أكثر من خطاب سياسي، إلا أن الحديث كان تسويغا وتبريرا لمنطق مشروع التناصف أكثر منه إقرارا وحُكما بهوية الدولة وبطابعها السياسي، أو دعوة إلى إعادة تأثيث علاقة الدين بالدولة المدنية.

وهنا يتضح الفرق المعرفي بين المُصلح السياسي ممثلا في قائد السبسي، والإصلاحي الاجتماعي مجسدا في الزعيم الحبيب بورقيبة. فالأوّل تعامل مع المدونة الاجتماعية كنصوص متحركة بمقتضى الغرض السياسي الشخصي والعام، في حين أن الثاني تلمس خطوط المقبول الفقهي لتكريس الثقافة المدنية، وحايث المدونة الفقهية لتحديث المجتمع.

ودون إيغال في المبحث المعرفي الذي يقف وراء حالة استعصاء تقرير لجنة المساواة، فمن الواضح أنّ الحسابات السياسية لعبت دورها في تجميد مشروع القانون ضمن أرشيف البرلمان.

صحيح أنّ غالبية الفاعلين الحزبيين والسياسيين يصفون حركة النهضة بـ”الظلامية” و”الرجعية” وغيرهما من الأوصاف الأخرى، ولكنها في العُمق “مُزايدة” لفظية قصد تحسين شروط التفاوض والتحالف، سُرعان ما تتساقط بُناها بمجرد توزيع المقاعد وتقسيم المناصب. ولا أدل على ذلك من تحالف رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي ينعت حركة النهضة بأتباع حسن البنا، ومن تقارب محسن مرزوق المُعارض اللدود لها، ضمن جسم حكومي وبرلماني واحد.

هل ستقدّم الأحزاب الحداثية والشخصيات السياسية مشروع التناصف في الميراث
هل ستقدّم الأحزاب الحداثية والشخصيات السياسية مشروع التناصف في الميراث

وعندما تصبح المزايدة السياسية في تونس على النهضة وليس ضدها، ومن أجل ترتيب تحالفات سياسية قائمة أو انتخابية قادمة معها، وليس تأثيث برامج سياسية واضحة للحكم أو المعارضة، يُصبح الاغتيال المباشر أو الناعم لمشروع المساواة قربانا انتخابيا للتقرب من الحركة التي يبدو أنها ستكون رقما صعبا في المشهد الانتخابي المقبل.

هنا سؤال مرجعي لا بد لكل متابع أن يطرحه، ما الذي منع الكتل البرلمانية من غير النهضة أن تصرّ على طرح المشروع على التصويت في الجلسة العامة، سيما وأنّ الكتل النيابية المؤيدة للمشروع تحظى بغالبية مريحة قد تصل إلى الثلثين (كتلة النداء، والائتلاف، والمشروع، الجبهة الشعبية، والكتلة الديمقراطية، المستقلون..)؟

الإجابة عميقة وصريحة، وتتفرع على قسمين، واحد متعلق بالحسابات السياسية لهذه الكتل والتي- ماعدا الجبهة الشعبية- ترى أنها الأقدر على التحالف القوي مع النهضة وبالتالي فهي لا تريد قطع حبل الودّ معها.

ولئن كانت النهضة قد أشارت في وقت سابق إلى أنها معنية بالانتخابات الرئاسية، فهذه إشارة إلى أكثر من متسابق بأنّ خزانها الانتخابي قد يطوّع لأحد المترشحين ما طوع الأخير نفسه وحزبه لفائدتها.

أما القسم الثاني، فهو المتعلّق بعدم الاقتناع الكافي بقيمة المشروع وأثره على المجتمع، الأمر الذي يفسر حالة الفتور التي تعامل معها هؤلاء مع المشروع أولا، وتقديم الكثير من المسائل السياسية والاقتصادية عليه ثانيا.

ذلك أنّ معظمهم يتفاعلون مع الواقع السياسي والبرلماني من زاوية الرفض التناقضي، لا من زاوية تأصيل البديل وتقديم الخيارات المغايرة، وما أيسر الفيتو السياسي وما أصعب تقديم المشاريع البديلة.

هل ستقدّم الأحزاب الحداثية والشخصيات السياسية مشروع التناصف في الميراث، ضمن حملاتها الانتخابية التي بدأت مبكرا؟ لا نتصوّر ولا نرجّح، ولكن ما هو ثابت أنّ الكتل التي خذلت المشروع لن تنصر يوما لا الحداثة المغدورة ولا الطبقات المقهورة.

9