عامل الصيانة المهذب

عدم احترام خيارات الناس، أصبح اختباراً اجتماعياً عسيراً يعكس سذاجة وسطحية البعض وخللا كبيرا في تفسيرهم لمفهوم التحضر، ولا أعرف بالضبط ما الذي يجنيه هؤلاء من دس أنوفهم في ما لا يعنيهم.
السبت 2019/05/11
أتركوا الناس وشأنهم.. أنظروا إلى البحر.. واستمتعوا بالهدوء وراحة البال!

قبل أيام، كنت قد أنهيت التمرين في النادي الرياضي وبعد أن حزمت حقيبتي جلست قليلاً في غرفة الملابس لأستريح وأتناول قطعة فاكهة قبل أن أغادر المكان، فإذا بموظفة الاستعلامات تدخل مسرعة لتقول “عامل الصيانة سيمر من هنا بعد خمس دقائق، لذا أرجو الانتباه سيداتي”. كان هناك عطل ما في غرفة الساونا يتطلب تدخلاً سريعاً وكان على عامل الصيانة أن يقوم بواجبه. بدأت الموظفة بالعد التنازلي؛ أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد.

اختبأت السيدات اللاتي لم يكملن ارتداء ملابسهن خلف الستائر، ثم تراجعت بعضهن إلى الحمامات بينما اختارت فتاة أخرى الاختباء في مدخل بركة السباحة.. حتى حضر الرجل وهو يصفر لحناً غريباً إيذاناً بحضوره، كان يمشي مطأطئ الرأس بينما قامت موظفة الاستعلامات بتغطية جزء من جسده بمنشفة حمام، استخدمتها كستارة قد تمنعه من لمح أي سيدة ربما لم يسعفها الوقت للهروب.

أنهى الرجل عمله بسرعة، فكررت موظفة الاستعلامات “سيمر عامل الصيانة مرة أخرى في الاتجاه الآخر، أرجو الانتباه”. حضر الرجل وهو يرسل بصره إلى الأرض وقد أحمرت وجنتاه من الخجل وكأنه شعر بالذنب بسبب الارتباك الذي سببه مروره، لكن إحدى السيدات المسنات التي كانت تضع المكياج وتنظر للمرآة بثقة أرسلت ضحكة صغيرة وهي تقول له “لا عليك يا ولدي، فقد انتهيت من تصفيف شعري، يمكنك المرور”. ثم أضافت بعد خروجه “يا للمسكين.. كم أشفق عليه”!

كان عامل الصيانة مهذباً بسخاء، حيث بالغ في سلوكه المؤدب لأنه كان يعلم في قرارة نفسه بأنه ربما انتهك خصوصية المكان، من دون ذنب واضح. هذه الخصوصية بدت له مهمة جداً في مكان وتوقيت معينين، في الوقت الذي لا تجد فيه بعض السيدات أي حرج في النزهة على شاطئ البحر وهن يرتدين ملابس السباحة، لأن المكان هنا مختلف.

الأسبوع الماضي، بدأت أيام الصوم ولأن الشهر يمتلك خصوصية معينة فإن بعض الناس، هنا في أوروبا، يحرصون مثل بقية الأعوام على تقديم التهاني لجيرانهم وأصدقائهم مثلما يتلقون التهاني بأعيادهم بالطريقة ذاتها، بل إن أغلب أسواق المواد الغذائية تعلن في هذا الوقت من كل سنة عن تخفيضات في أسعار الأطعمة المفضلة للصائمين؛ مثل العدس، التمر، الأرز والحلويات، كما تزين هذه الزوايا الخاصة بعرض (سلة) رمضان بلافتات مكتوب عليها بالإنكليزية والعربية أحياناً عبارة (رمضان مبارك).

هذه العروض تنطبق أيضاً على بعض المناسبات المشابهة، حيث تزداد وضوحاً في أعياد الميلاد ورأس السنة. لكل مناسبة خصوصيتها واحترامها، ومثلما يتوقع الآخرون أن نحترم شعائرهم ومشاعرهم فمن المنطقي أن نجد ما يقابلها.

لكن هناك شريحة معينة من الناس لا تعترف بالحقوق الفردية، بالتالي فهي تحاول جاهدة فرض أفكارها والتبشير بآرائها حتى على حساب مشاعر الآخرين؛ فتجد (من أهل جلدتك) من يسفه صيام الناس ويحاول بشتى الطرق الاستخفاف بخيارهم لسبب غير مفهوم. في المقابل، يخرج لك أحدهم بتحذير وقح ويلقي عليك نظرة احتقار توشك أن تجلدك عندما يكتشف عدم التزامك بالصيام، كأنه ملاك منزّل من السماء بأمر إلهي، حتى إذا تسنى له أن يكون في موقع سلطة، حظر المجاهرة بالإفطار بقوة القانون!

عدم احترام خيارات الناس، أصبح اختباراً اجتماعياً عسيراً يعكس سذاجة وسطحية البعض وخللا كبيرا في تفسيرهم لمفهوم التحضر، ولا أعرف بالضبط ما الذي يجنيه هؤلاء من دس أنوفهم في ما لا يعنيهم.

مرة، كنت أجلس على شاطئ برايتون المليء بالحصى.. أتطلع إلى البحر فتقطع سلاسة المشهد أمامي أقدام سيدات يستمتعن برياضة المشي؛ سيدات يرتدين ملابس سباحة ويمرحن مع أطفالهن بالخوض في المياه الباردة، سيدات يتنزهن بملابس رياضية أنيقة وسائحات بالحجاب أو العباية العربية يستمتعن بهواء البحر العليل..

كان الجميع؛ نساء ورجالاً وأطفالاً، منشغلين بنزهتهم من دون أن يلتفت أحدهم لا إلى اليمين ولا إلى اليسار، فوجهتهم جميعاً كانت إلى الأمام حيث البحر وأمواجه ونوارسه.

أتركوا الناس وشأنهم.. أنظروا إلى البحر.. واستمتعوا بالهدوء وراحة البال!

8