اتحاد الشغل والانتخابات والخيارات الاجتماعية

دخول الاتحاد على الخط الانتخابي سيعيد توزيع الخيارات السياسية والاجتماعية للأحزاب التونسية من خيارات متباينة صلب اليمين الليبرالي، إلى خيارات مختلفة بين اليمين الليبرالي والخيار الديمقراطي المجتمعي.
الثلاثاء 2019/05/07
الاستعداد للموسم الانتخابي

المُتابع لخطاب الاتحاد العام التونسي للشغل حول إمكانية مشاركته في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، يستنتج أنّ المنظمة الشغيلة لا تريد أن تكون بعيدة عن دائرة اتخاذ القرار في منظومة الحكم القادمة.

صحيح أن اتحاد الشغل كان شريكا في المفاوضات الاجتماعية مع كافة الحكومات، وصحيح أيضا أنه مثل لبنة التوافق الوطني الواسع، ولكن الصحيح أيضا أن الخيارات الكبرى المعتمدة من قبل الفاعل الرسمي مثْل الانخراط غير المدروس في سياسة الاقتراض والإفراط في التداين من المانحين الدوليين، كانت لها تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة على الطبقة المتوسطة، بيضة قبّان المنظمة الشغيلة.

حيث إن السياسات الاقتصادية لكافة الحكومات المتعاقبة على القصبة، حوّلت المفاوضات الاجتماعية من نقاشات ثنائية بين الحكومة واتحاد الشغل، إلى حوارات ثلاثية ينخرط فيها بشكل غير مباشر الفاعل الاقتصادي الدولي، الذي صار له دور كبير وملحوظ في توجيه المُفاوضات وتسقيف مطالبها وبالتالي تأزيم الأوضاع العامّة.

لا يبدو أنّ أداء وزراء الاتحاد -من الذين مروا سابقا على الهياكل القيادية لاتحاد الشغل- نال استحسان المنظمة الشغيلة، ذلك أن تملكهم للسلطة وتمثلهم للحُكم سيطرا على إرثهم النقابي، وبعضهم صار ملكيا أكثر من الملك نفسه.

بمعنى أوضح، يريد اتحاد الشغل أن يُشارك بشكل وازن في صناعة المشهد الحاكم القادم، وأن “يمأسس” الطابع الاجتماعي للحُكم، بعد أن عانى الأمرين من أحزاب يمينية تستقوي بشرعية الانتخاب لإسقاط سياسات ليبرالية مجحفة على طبقة متوسطة باتت مفقرّة بفعل الاقتطاع المستمرّ للرواتب.

وفي مثل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الحساسة والحرجة التي تمر بها البلاد، لا يُمكن لاتحاد الشغل إدارة المفاوضات مع الحكومة بورقة الإضراب العام، الذي يكلف المجموعة الوطنية ثمنا باهظا، ولا يُمكنه في المقابل الصمت حيال السياسات الاقتصادية العمومية التي استهدفت التونسي في قوته، وبين هذا وذاك يبدو أن فرضية المشاركة العميقة في رسملة الخيارات الاجتماعية لدى الفاعل الحاكم القادم باتت واردة.

في هذا المفصل، تُطرح أكثر من صيغة للمشاركة في الانتخابات العامة، من بينها الدخول بقائمات انتخابية “اتحادية”، ومن بينها أيضا دعم قائمات انتخابية مستقلة، أو بناء تحالفات مع أحزاب سياسية تقبل بالخيارات الاجتماعية والاقتصادية للاتحاد.

وأيا كانت طبيعة المُشاركة، التي يبدو أنها لا تزال في طور الاستقراء والدراسة من قبل قياديي اتحاد الشغل، فإن الأهم هو أن دخول المنظمة الشغيلة للمشهد السياسي الانتخابي سيعدل منظومة الاصطفاف السياسي وسيعيد تقسيمها بشكل عميق.

دخول المنظمة الشغيلة على الخط الانتخابي سيعيد توزيع الخيارات السياسية والاجتماعية للأحزاب التونسية من خيارات متباينة صلب اليمين الليبرالي، إلى خيارات مختلفة بين اليمين الليبرالي والخيار الديمقراطي المجتمعي.

ذلك أنّ انخراط اتحاد الشغل سيسحب البساط من الجدل الإعلامي والدعائي القائم حاليا بين اليمين الليبرالي المحافظ (ممثلا في النهضة)، واليمين الليبرالي الحداثي (ممثلا في معظم الأحزاب الموجودة)، وهو جدال متمحور حول هوية الدولة ومجال الدين في العمل السياسي، وقضايا الجندرة والتناصف، وهي قضايا مهمة ومحورية ولكنّها تندرج ضمن السجال اليميني- اليميني، وتنصهر صلب ما تقبل به الليبرالية الاقتصادية من محاججة ومُنازعة.

دخول الاتحاد على الخط سيغير من المشهد الانتخابي والسياسي، ويحول النقاش إلى نقاش بين مناصري الاقتصاد التضامني القائم على العدالة الاجتماعية وتوظيف الشباب ودور الدولة المحوري في التنمية وتخفيف الأعباء الضريبية على الطبقة الوسطى والقطع مع سياسة التسوّل من صندوق النقد الدولي، وبين مؤيدي الخيار الليبرالي المناصر لاقتصاد السوق وتحجيم دور الدولة في الاقتصاد والاستغناء التدريجي عن منظومة الرعاية الاجتماعية.

المُفارقة التي يعيشها المشهد التونسي هي أن ذات الفاعلين السياسيين الذين استمرؤوا سياسة الاقتراض والتداين من صندوق النقد الدولي والذين استهدفوا الطبقة المتوسطة في العمق، هم ذاتهم الذين يرفعون اليوم شعارات التضامن المجتمعي والاقتصاد التنموي التشاركي.

أن يكون اتحاد الشغل في قلب المشهد السياسي التونسي، فهذا يعني إعادة الاعتبار لمقولة المعسكرات السياسية، فبعد التقاطع على المقولة الكبرى للديمقراطية كخيار أساسي، يكون مناط الاختلاف بين اليمين واليسار والوسط في مستوى الخيارات الاقتصادية العامة والخاصة والمتجسدة في أربع نقاط محورية وهي؛ دور الدولة في الاقتصاد بين التحجيم والتدعيم، والمهام الأساسية لصناديق التقاعد والحيطة الاجتماعية، والسياسة والعدالة الضريبية دون استهداف طبقة محددة دون غيرها، ووضع حد لسياسة التسوّل من المانحين الدوليين.

هكذا تعود المُعسكرات والخيارات السياسية والاقتصادية إلى أصلها، وتذوب الفروق الهامشية بين تكتلات سياسية جربها التونسي بمقتضى الاختلاف والتباين فإذا بها متماهية إلى حدّ الانصهار، ذلك أن الخيار بين النهضة ونداء تونس وتفرعاته الكثيرة، هو تصويت لذات المعسكر اليميني الذي يعيد استدرار السياسات الليبرالية المتوحشة مرة باسم الدين، وأخرى باسم التمدّن.

دخول الاتحاد معترك المشهد السياسي لا يُريح طرفين كبيرين، الأول متمثل في حركة النهضة، حيث سيفرض عليها توازنات سياسية وانتخابية جديدة بعد أن خُيّل لها أنها باتت مستحكمة بالحكم والحكومات، والثاني متجسد في قائمة طويلة من الأحزاب السياسية التي لا تعرف من الخطاب سوى المزايدة والمشاحنة والتلويح بقميص المدنية المهددة عوضا عن التأسيس لخطاب البديل الاقتصادي والاجتماعي لبلاد مهددة بأكثر من خراب.

9