المسامعية فن سياسي يغذي أكبر التحولات في الجزائر

المجموعات التي تسمى في الجزائر "المسامعية"، قد تكون السلطة الجزائرية حين تَهُمٌّ  بالرحيل المرتقب، أكبر النادمين على تجاهل الأغاني والهتافات التي رددها أفرادها للتعبير عن أملهم في التغيير.
الثلاثاء 2019/04/02
أغاني "المسامعية" هزت عرش العاصمة الجزائرية

بعدما أفلست النخب السياسية والفكرية والأكاديمية وفشلت في إنتاج الوعي الجمعي، أبدعت فئة من الشعب الجزائري وتحولت مع الوقت إلى ظاهرة لافتة، في تأليف وتلحين الأغاني التي حملت رسائل التغيير في المدرجات، والتي تغذي الآن الحراك الشعبي في الشوارع والساحات.

تلك المجموعات التي تسمى هنا “المسامعية”، قد تكون السلطة الجزائرية حين تَهُمٌّ بالرحيل المرتقب، أكبر النادمين على تجاهل الأغاني والهتافات التي رددها أفرادها أسبوعيا في مدرجات النادي العاصمي لكرة القدم على مدار سنوات، للتعبير عن أملهم في التغيير.

استمدت جماهير نادي “اتحاد الجزائر” لكرة القدم اسم “المسامعية” من مغنيات الأفراح والمناسبات العائلية اللائي اشتهرن بإضفاء أجواء النشوة والسرور على النسوة، ولا يظهرن أمام الرجال في العادة نظرا للطابع المحافظ للمجتمع، حيث ينعزل الرجال عن النسوة في مثل هذه المناسبات.

وحين تحولت مدرجات ملعب النادي العاصمي إلى فضاء تتماهى فيه مع الأعراس العاصمية، اكتسبت جماهير الاتحاد كلها تسمية “المسامعية”، بعدما صارت تنافس المغنيات في تأليف وتلحين الأغاني وإجادة تأديتها على المسامع، وهناك من الأغاني ما جرى تعديلها أو تأليفها في واحد من مقاهي ضاحية سوسطارة التي ينتسب إليها النادي.

ورغم غياب التدقيق التاريخي لتطور الزخم الشعبي للنادي العاصمي العريق، والتحولات الاجتماعية لجماهيره المبدعة، فإن العارفين بها يرون أن أغاني “المسامعية” التي هزت عرش العاصمة وأسماع مراكز القرار في البلاد، تستمد تأثيرها من مواكبتها للتطورات المحيطة بالفريق اجتماعيا وثقافيا وحتى سياسيا.

تاريخ طويل في نقد السلطة

الجزائريون الشباب يكشفون عن روح إبداعية في التشجيع والغناء وفي الممارسة السياسية، وكما ظهرت لمستهم في الروح الرياضية وتقبل الهزيمة، برزت أيضا في تشكيل المعيار السلمي والهادئ لمسيرات الحراك الشعبي
الجزائريون الشباب يكشفون عن روح إبداعية في التشجيع والغناء وفي الممارسة السياسية، وكما ظهرت لمستهم في الروح الرياضية وتقبل الهزيمة، برزت أيضا في تشكيل المعيار السلمي والهادئ لمسيرات الحراك الشعبي

لأن مؤلفي أغاني وأهازيج النادي يعيشون زمانهم ويواكبون مجتمعهم، فقد تحولت في السنوات الأخيرة إلى ظاهرة اجتماعية وفنية تسترعي الاهتمام والدراسة، لأنها كانت بمثابة مؤشر التحول الذي تعيشه البلاد خلال السنوات الأخيرة.

وفي العادة لا يحتاج “المسامعية” إلى آلات موسيقية لتلحين أغانيهم، فالأصوات والحناجر وحدها كفيلة بإخراج الفعل الإبداعي لديهم، ويستعان في أسوأ الحالات بطبل يضبط الإيقاع، وجمهور اتحاد العاصمة ليس مجموعة أو فرقة موسيقية، تؤدي أغانيها ويكتفي الآخرون بالاستماع والاستمتاع، بل هو جمهور كروي بكامله شغوف بالكرة، ومتذوق كبير للألحان والأشجان، ولو أن الكلمات في الغالب تكون مستوحاة من أفكار وتعابير الشارع، في مزيج بسيط من اللسان الدارج والعربية والفرنسية.

وبما أن مفعول الكلمة يعادل أو يفوق مفعول الرصاصة، فإن محاولات جس نبض الشارع دفعت مصالح أمنية خلال الأشهر الماضية إلى إجراء تحقيق فشل في استنباط النتائج الحقيقية بعدما انتهج المقاربة الأمنية وملاحقة عشاق النادي، الذين يألفون أغاني الاتحاد في مقاهي وتقاطعات حي سوسطارة الشهير في العاصمة.

لقد تغافل المحققون عن القراءة الاجتماعية والسوسيولوجية التي حولت “المسامعية” إلى خزان الأغاني والهتافات التي تردد يوميا في الحراك الشعبي بالبلاد، وتحولت إلى شعارات ومطالب سياسية تدوي سماء العاصمة والمدن الجزائرية من أجل تغيير النظام السياسي القائم.

وكانت أغنية “مكاش الرايس. كاين تصويرة” التي تعني بالفصحى “لا يوجد رئيس. توجد صورة”، التي هزت مدرجات ملعب “عمر حمادي” بالعاصمة خلال الأشهر الماضية، بعد إقرار الموالاة السياسية بترشيح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، دون أن يظهر أثر للرجل على الواجهة، بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الغضب لدى الشباب، وامتدت عدواها لتتصدر مختلف الملاعب الرياضية وشبكات التواصل الاجتماعي.

تجاهلت السلطة مطالب الجميع واستغبت العقل الجزائري، ولم تستمع لا إلى تحذيرات المختصين من الانفجار السياسي والاجتماعي التي أطلقت منذ العام 2011، ولا إلى أصوات الشباب المرفوعة أسبوعيا في مختلف ملاعب الجمهورية، فواجهت منذ الثاني والعشرين من فبراير الماضي مصير الرحيل القسري، تحت ضغط الحراك الشعبي.

صمت النخب

كانت رسائل “الشناوة” جمهور مولودية الجزائر و“الكواسر” جمهور اتحاد الحراش و“السنافير” جمهور شباب قسنطينة، واضحة ومواكبة للتطورات الاقتصادية والاجتماعية، وغنى الجميع بطريقته الخاصة عن الفساد في شركة “سوناطراك” وعن الهجرة السرية “الحرقة” والعهدة الخامسة، لكن السلطة كانت تصم الآذان ولا تعير أهمية لتلك الأصوات.

وسيذكر التاريخ الجزائري الحديث أنه حين خرست النخب السياسية والفكرية والإعلامية عن رفض الأمر الواقع الذي فرضته سلطة بوتفليقة على مدار عشريتين كاملتين على المجتمع، وانسحبت من مواقعها، تحمل المسامعية وغيرهم من جماهير الملاعب الكروية مسؤولية التعبير عن خوالج الشارع وشحن قدراته النفسية والذهنية إلى يوم موعود لم يتأخر كثيرا.

مقاه وأزقة تنتج الوعي

إذ مازالت الاستفهامات تطرح عن مصدر الهبة الشعبية غير المسبوقة في الجزائر والمنطقة العربية عموما، وعن خلفيات وعوامل تشكل هذا الوعي الجمعي الملموس في مليونيات الجزائر على مدار ستة أسابيع، فإن التاريخ سيذكر بأنه كان للمسامعية جزء من صناعته وإنتاجه في مقاهي وزقاق حي سوسطارة.

ويبرز ذلك بشكل لافت في شعارات وهتافات صدح بها المتظاهرون والمحتجون على نظام بوتفليقة، وترجم الحراك الشعبي بشكل آلي الآهات التي تنبعث من أعماق شباب أغلقت في وجهه جميع قنوات التعبير الحر وشروط الحياة الكريمة، ولم تبق أمامه إلا مدرجات ملاعب كرة القدم لينفس بها عن صدره المكتوم.

وسيبقى لهؤلاء شرف شحن الحراك الشعبي بالأغاني التي تبكي القلوب قبل العيون، فأغنية “بابور اللوح” أي “قارب الخشب”، الذي يستعمله الشباب في الهجرة إلى سواحل الضفاف الأوروبية، تحمل في أعماقها مأساة إنسانية، قبل أن تكون فشلا سياسيا ذريعا لنظام بوتفليقة، ففي ذروة الحرب الأهلية، لم يحدث أن غادر الشباب الجزائري بلاده بهذا الشكل والكم، كما حدث خلال السنوات الأخيرة من نظام الرئيس بوتفليقة.

استطاع مؤلفو أغاني ”المسامعية” محاكاة الأمهات اللائي بكين بحرقة فلذات أكبادهن لما تواترت عليهن أنباء تحولهم إلى غذاء للأسماك في حوض المتوسط، وتسمرن على سواحل الضاحية الغربية للعاصمة ينتظرن خبرا أو طيف أمل، بللته دموع ابتلعتها تجاعيد وجوه قسى عليها الإقصاء والتهميش والفقر في وطن ضاق عليهن وعلى أبنائهن.

تجاوزت الأغاني الخطب المعلبة للسلطة وحماقات طبقة سياسية مهترئة، حاولت استغباء الجميع بوسائل القمع، لكن المسامعية وغيرهم وقفوا لها بالمرصاد، وأعلنوا القطيعة مع كل ما هو رسمي في البلاد.

رصيد نضالي

"المسامعية" لا يحتاجون إلى آلات موسيقية، فالحناجر وحدها كفيلة بإخراج الفعل الإبداعي لديهم، مع طبل يضبط الإيقاع، والكلمات تكون مستوحاة من أفكار وتعابير الشارع، في مزيج بسيط من اللسان الدارج والعربية والفرنسية
"المسامعية" لا يحتاجون إلى آلات موسيقية، فالحناجر وحدها كفيلة بإخراج الفعل الإبداعي لديهم، مع طبل يضبط الإيقاع، والكلمات تكون مستوحاة من أفكار وتعابير الشارع، في مزيج بسيط من اللسان الدارج والعربية والفرنسية

“اتحاد العاصمة”، هو واحد من النوادي الكروية العريقة في البلاد، يعود تأسيسه إلى سنوات الاستعمار الفرنسي، حين كانت هناك معركة حقيقية بين الأهالي والمستعمر في كرة القدم، لذلك يبقى هذا النادي واحدا من النوادي القليلة التي تملك جمهورا مميزا في الغناء والتشجيع والاستعراض يضاهي كبرى النوادي الأوروبية.

كل ذلك دفع السلطة إلى الاستحواذ على النوادي بورقة التمويل، من أجل الاحتفاظ عليها كواجهة رياضية وشبابية مشرقة، ورغم بيع النادي خلال السنوات الأخيرة لرجل الأعمال المقرب من السلطة علي حداد، الذي أوكل مهمة إدارته لشقيقه ربوح حداد، فإن “المسامعية” ظلوا أوفياء لخطهم السياسي، والمال الذي سخره الرجل اشترى النادي لكنه لم يشتر المسامعية.

وأحس هؤلاء أن شعارات الاحتراف هي مطية لاختطاف النادي منهم، وشراءه من طرف حداد هو تصفية حسابات سياسية لا تمت بصلة لطموحاتهم وشغفهم، والغليان المشتعل الآن حول تحول اتحاد العاصمة إلى بؤرة فساد مالي يجسد محاذير المسامعية وتنديدهم المستمر بسلطة غرقت في الفساد وهمشت الشباب، قبل أن تستفيق على وقع الحراك الشعبي.

بقي جمهور “الاتحاد” جذوة مشتعلة في مدرجات بسيطة، في الحين الذي أغلقت فيه كل قنوات الاتصال والتعبير، واستطاع الحفاظ على بريقه خلال السنوات الصعبة، مما صنفه على أنه الحزب السياسي الكبير الذي ناضل من أجل حريته ولم يتخلف عن انتقاد السلطة، وأسمع رموزها رسائله بصوت عال في محطات كثيرة.

واليوم تشكل أغاني وأهازيج المسامعية أبرز رصيد شفهي في رصيد النادي، ويمكن أن تتحول إلى جزء من تاريخه ومن تاريخ البلاد، حين يقوم المؤرخون بتدوين تفاصيل الحراك الشعبي الجزائري، وكيف تحولت أصوات الملاعب إلى ثورة سياسية سلمية غير مسبوقة، أنهت بشكل معنوي وسياسي نظام بوتفليقة وقطعت مع عهد وشرعية حررت البلاد ولم تحرر العباد.

هتافات "الشناوة" جمهور مولودية الجزائر و"الكواسر" جمهور اتحاد الحراش و"السنافير" جمهور شباب قسنطينة، رسائل واضحة ومواكبة للتطورات الاقتصادية والاجتماعية، غناها الجميع بطريقته الخاصة عن الفساد في شركة "سوناطراك" وعن الهجرة السرية "الحرقة" والعهدة الخامسة، لكن السلطة كانت تصم الآذان

ويقول مختصون إن النادي الذي يملك جماهيره في مختلف ربوع البلاد، يحتفظ بنواته الصلبة في الضواحي الغربية للعاصمة، وتتفرد مقاهي وزقاق حي سوسطارة بصناعة المنتوج الفني والأفكار الاستعراضية في المدرجات، والتي تحولت إلى موضة تعدت حدود البلاد إلى دول المنطقة كتونس والمغرب.

لقد كشف هؤلاء الشباب عن روح إبداعية في التشجيع والغناء وفي الممارسة السياسية، حيث ظهرت لمستهم في الروح الرياضية وتقبل الهزيمة من الخصم، في تشكيل المعيار السلمي والهادئ في مسيرات الحراك الشعبي وفي روح التلاحم والتضامن بين الجميع. فكما لا يشرف العنف النادي الكروي، فهمَ هؤلاء أن العنف سيبدد ويشوه صورة الاحتجاج السياسي، وأن الخصومة الكروية مع نظرائهم في المولودية وشبيبة القبائل هي خصومات في المدرجات وتلاحم في الساحات والشوارع من أجل ترحيل نظام بوتفليقة.

13