روسيا وأوروبا.. التاريخ والجغرافيا يصوغان المخاوف من سياسات بوتين

عوامل كثيرة تؤثر في تكوين التصورات الأوروبية تجاه روسيا، ومن هذه العوامل ما يمكن أن يتغير على المدى القصير والمتوسط كالعوامل السياسية والاقتصادية، ومنها ما يصعب تغييره إلا على المدى الطويل كالعوامل المرتبطة بالجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا.
السبت 2019/03/30
أي إطلالة روسية على أوروبا

تبدو معضلة دول الناتو والاتحاد الأوروبي في صراعها مع روسيا نابعة من كونه صراعا بين طرفين أحدهما برأس واحد والآخر بعدة رؤوس، في كل رأس منها رأي لا يتفق مع ما هو موجود في الرؤوس الأخرى، مع ما يقتضيه الأمر من وجود تصور موحد، واستجابة موحدة، تجاه التهديد الروسي الذي اتضحت معالمه بعد ضم روسيا للقرم وتدخلها العسكري في شرق أوكرانيا.

وبناء على الاختلاف في التصورات تجاه التهديد الروسي، اختلفت آراء الدول الأوروبية، بين اتجاه تصعيدي يتطلب ردعا حقيقيا لروسيا عن تكرار ما فعلته بأوكرانيا في مناطق أخرى من شرق وشمال أوروبا، ويرى أن العلاقة بين روسيا وأوروبا يجب أن تقوم على أساس الصراع، واتجاه تصالحي يرى أن العلاقة مع روسيا يجب أن تتجه نحو الشراكة وأن تصعيد الصراع ضد روسيا من شأنه أن يدفعها للقيام بأفعال أكثر عدوانية، قد توصل القارة إلى نقطة حرجة من الصراع لا يرغب فيها أحد.

وتؤثر عوامل كثيرة في تكوين التصورات تجاه روسيا والتي تنبني عليها تلك الاتجاهات، ومن هذه العوامل ما يمكن أن يتغير على المدى القصير والمتوسط كالعوامل السياسية والاقتصادية، ومنها ما يصعب تغييره إلا على المدى الطويل كالعوامل المرتبطة بالجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا.

وتفرض العوامل التاريخية والجغرافية نفسها في تأسيس تصورات الشعوب والحكومات الأوروبية لشكل العلاقة مع روسيا، ومن ثم في تحديد طبيعة الاستجابة للتهديدات الروسية لبلدان القارة.

من الناحية التاريخية فإن بعض الشعوب الأوروبية تحمل في ذاكرتها ذكريات سيئة عن العلاقات مع روسيا منذ الفترة القيصرية، وصولا إلى فترة حكم ستالين والحرب الباردة، ولذلك فهي تنظر للروس كأعداء تاريخيين مارسوا بحق أمتهم الاحتلال والقمع أو دخلوا معها في حروب طاحنة، كحال شعوب البلطيق والأتراك والبولنديين والأوكرانيين، والذين يخشون من أن تكون أحداث أوكرانيا وجورجيا فاتحة لعودة روسيا إلى سلوكها العدائي، في حين أن شعوبا أوروبية أخرى خاصة بعض السلافيين ينظرون إلى روسيا بوصفها حليفا قديما تدخل في مساعدة أسلافهم منذ مئات السنين، كحال البلغار والصرب، بينما تبدي ذاكرة شعوب البحر المتوسط -عدا الأتراك- تأثيرا محايدا، نظرا لعدم الاشتباك مع الروس. وكذلك فإن الجغرافيا تأثر في صناعة التصورات لدى الشعوب الأوروبية تجاه مستقبل العلاقات مع روسيا.

فموقع بعض الدول في المحيط الروسي المباشر، يجعلها في حالة قلق دائم من تكرار روسيا ما فعلته مع جارتها الأوكرانية معها أيضا، وذلك بسبب التلاصق الأرضي، والتداخل في المجالات الجوية والمياه الإقليمية، الأمر الذي يسمح للروس بانتهاكها بشكل مستمر، من قبيل الاستفزاز أو لتذكيرها بضعفها إزاء القوة الروسية، كما تفعل في مناطق البلطيق على وجه الخصوص، وكذلك فإن هذا القرب الجغرافي يجعل من أراضي هذه الدولة في مرمى الأسلحة الروسية قصيرة ومتوسطة المدى، ويُخضع أجواءها لأنظمة الدفاع الجوي بعيدة المدى، ويُدخل سفنها في مدى صواريخ التحريم البحري المنصوبة على الشواطئ الروسية.

ويزيد من مخاوف هذه الدول المتعلقة بالموقع من وقوع أي اشتباك مستقبلي بين روسيا وحلف الناتو إدراكها لتوسطها بين العدوين، ما يعني بالتأكيد تحول أراضيها إلى ساحة حرب، أو ممر للقوات المتحاربة، وبالتالي فإن ما سينجو من الاحتلال الروسي لن ينجو من اشتباك نيران المتحاربين على جانبي الجبهة، وهذا ما نجده في دول البلطيق المتحالفة مع الناتو، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، على وجه الخصوص.

وفي باب الموقع الجيوسياسي أيضا، فإن بعض الدول وجدت نفسها بعد انهيار حلف وارسو في موقع الدول الحاجزة رغما عنها، بفعل الممانعة الروسية الكبيرة لانضمامها إلى الناتو، واعتبار الناتو سيطرة روسيا عليها خطا أحمر استراتيجيا في العلاقات مع روسيا، وهذا الأمر يتعلق بكل من أوكرانيا وفنلندا وجورجيا على وجه الخصوص، والتي تجد نفسها مدفوعة من تهديدات روسية الدائمة لها إلى طلب العضوية في الناتو، والمؤسسات الأوروبية الأخرى، أملا في أن يشكل ذلك عامل ردع فعال لروسيا يمنعها من تهديد هذه الدول أو السعي للضغط على حكوماتها أو ابتزازها بالتخويف العسكري والضغط الاقتصادي لتبقى تحت هيمنتها، وفي الوقت نفسه فإن روسيا تعتبر انضمام هذه الدول إلى الناتو بمثابة إعلان حرب عليها، وتسعى لمنعه عن طريق التهديد ودفع هذه البلدان بعيدا عن الاستقرار مما يزهد الدول الأوروبية بقبول عضويتها في مؤسساتها المشتركة، وبالتالي تحمّل أعبائها المختلفة، كما هو الحال مع أوكرانيا، التي تسابق الوقت لتلبية متطلبات دول الناتو والاتحاد الأوروبي لقبول عضويتها فيهما.

وكذلك فإن التقارب المكاني يعني بالضرورة تداخلا في الأرض والمياه والأجواء، وصراعات على الجروف القارية والمياه الإقليمية لم تحسم كلها بعد، خاصة في منطقة المحيط المتجمد الشمالي، حيث تتنازع النرويج والدنمارك وأيسلندا مع روسيا على السيادة في هذه المنطقة ذات الفرص الاقتصادية والاستراتيجية، ولذلك فإنه من الطبيعي أن تبدي هذه الدول مخاوف شديدة من الطموحات الروسية.

ومما يتعلق بأثر الجغرافيا أيضا، شكل الأرض في شرق أوروبا عموما أو ما يعبر عنه بالتضاريس، حيث يمتد السهل الأوروبي العظيم، ليغطي هذه المنطقة بالكامل ويوحدها من الناحية الطبيعية مع المنطقة الغربية من روسيا والممتدة حتى جبال الأورال، والتي تشكل الحدود الطبيعية الشرقية لقارة أوروبا، وهذه الطبيعة السهلية مع ما تتضمنه من ممانعة قليلة للحركة والانتشار العسكريين، مع ضعف الممانعة وقوة الردع العسكريين، لا يعطيان الشعور بالأمن لدول شرق أوروبا تجاه روسيا.

وكذلك فإن تشكيل بعض الدول الأوروبية حاجزا يحجب الأراضي الروسية عن البحار، يجعلها تدرك المطامع الروسية في إزالتها يوما ما لتوسيع سواحلها، خاصة وأن البحار تشكل واحدة من أهم نقاط الضعف الجيوسياسية لروسيا، القارية بامتياز، وهذا الأمر نلاحظه في بحر البلطيق، حيث تشبه روسيا في وصولها إلى مياهه حالة العراق بالنسبة للخليج العربي، بخليج ضيق ينتهي بسان بطرسبرغ تشرف على جانبيه كل من فنلندا وإستونيا، ومما يضاعف شؤم هذه الحاجزية، أن كلا من ليتوانيا ولاتفيا، تشكلان حاجزا بين أرض روسيا الأم، والقطعة المنفصلة عنها في كاليننغراد، والتي لا يمكن وصلها بالأراضي الروسية إلا بضم هاتين الدولتين إلى الاتحاد الروسي.

ويشبه حال هذه الدول حال تركيا التي تتحكم بمدخل البحر الأسود، وتحبس روسيا داخله منذ 500 عام، ولم تكن روسيا تخفي طمعها في الاستيلاء على إسطنبول، لتحقيق الوصول إلى المياه الدافئة، وهو ما شكل عامل دعم غربي من أوروبا لتركيا لمنع حدوث هذا. وهذه الحاجزية كانت تشكلها جزيرة القرم، التي تحصر قسما من الشواطئ الروسية على البحر الأسود، وتطوقها داخل بحر آزوف، وقد أنهت روسيا هذا الواقع بسيطرتها على القرم، وإضافة شواطئها الجنوبية والغربية إلى امتداد شواطئها على البحر الأسود.

فهذه العوامل التاريخية والجغرافية تؤثر بالإضافة إلى عوامل أخرى على طبيعة العلاقة بين أوروبا وروسيا، عن طريق الضغط المستمر من قبل الدول المتخوفة على الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من أجل اتخاذ إجراءات تحد من قدرة روسيا أو رغبتها في تهديد استقرار هذه الدول مستقبلا، والذي كان من نتائجه استمرار العقوبات الاقتصادية الهادفة إلى إنهاك روسيا، ومنعها من تطوير قدراتها المهددة للغرب، واستحداث انتشار عسكري للناتو في الدول المهددة، وتقوية جوانب الضعف العسكري والأمني فيها، بالإضافة إلى زيادة حجم وحدّة الاستعراضات العسكرية والمناورات الحربية الهادفة إلى ردع روسيا عن القيام بأي فعل معاد.

9