"شرق الفرات" ثمن السلام مع تركيا

قبل نهاية العام 2015 كانت هناك محاولات لتأسيس مفاوضات بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، يشرف عليها وسطاء، بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومؤسس الحزب عبدالله أوجلان، السجين لدى السلطات التركية منذ 20 عاما.
هذه المفاوضات انقطعت، واختفى ذكرها في الإعلام في الفترة اللاحقة لأسباب عديدة، منها الانتعاش الذي أحس به الحزب مع النفوذ الكبير الذي حظي به فرعه في سوريا المسمى حزب الاتحاد الديمقراطي والموارد الكبيرة البشرية والمادية واللوجستية التي باتت تحت تصرف قيادة الحزب المحتمية بجبال قنديل، وهذا الإحساس بتجدد شباب الحزب دفع قيادته إلى التفكير مجددا في الضغط على الحكومة التركية من خلال العمل المسلح، والانتشار في المدن ذات الأغلبية الكردية في جنوب تركيا، الأمر الذي قُوبل برد فعل عنيف من الجيش التركي، وأثر كثيرا على استمرارية المفاوضات التي كان هدفها إلقاء الحزب لسلاحه والانغماس في العملية السياسية لتحقيق أهدافه.
هذه العملية السياسية أثرت أيضا على سير المفاوضات، مع إصرار أردوغان على إنفاذ تعديلات على دستور البلاد، ومعارضة حزب الشعوب الديمقراطي المقرب من حزب العمال الكردستاني لها، وتعامل أردوغان مع نوابه بالسجن والاعتقال، لتقليل تأثيرهم على مؤيدي الحزب في جنوب تركيا وشرقها.
السبب الآخر الذي كان له تأثير كبير على سير المفاوضات كان ذا بعد دولي، مع إحساس قيادة الحزب أنها تحظى بدعم كبير من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مبني على أساس التحالف للحرب على الإرهاب، وفي الوقت نفسه دخلت العلاقة بين النظام التركي والدول الغربية مرحلة جفاء وتباعد، تحت تأثير خلافات عديدة، منها الدعم المقدم من تلك الدول لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يصر النظام التركي على أنه سيكون موجها لدعم عمليات حزب العمال الكردستاني داخل تركيا، وقضية الانقلاب التركي وما تبعها من اتهامات تركيا للدول الغربية بدعمه، وانتقادات الغرب لتعامل السلطات التركية مع المعارضين لأردوغان بعد الانقلاب، وهذا كله شجع قيادة الحزب على تبني مواقف متشددة تجاه تركيا، أملا في استغلال هذه اللحظة التاريخية في تحقيق أكبر ما يمكن من المكتسبات قبل أن يتغير اتجاه الريح بتغير مصالح الدول ورؤى الحكومات الغربية المتبدلة باستمرار. واليوم ومع الصوت العالي التركي في ما يتعلق بالضغط على حزب العمال الكردستاني وأنصاره في سوريا، يُسمعُ همس خافت في الإعلام التركي عن تجديد مسار المفاوضات بين النظام التركي والحزب أملا في إنهاء الصراع بين الطرفين داخل تركيا، والذي بدأ يأخذ بعدا إقليميا مع توسع العمليات التركية ضد الحزب إلى العراق وسوريا، وإحساس الأتراك أن استمرار هذه القضية بالنمو في خارج البلاد من شأنه أن يؤثر مستقبلا على الداخل التركي، خاصة مع الأزمات الاقتصادية والسياسية العميقة التي قد تشكل خطرا على استقرار النظام في الفترات القادمة.
واليوم، ومع الإحساس بالقوة الذي يتملك قياديي الحزب بناء على ما يرونه بأيديهم من أرض ومقاتلين وموارد ودعم دولي، فهناك أيضا إحساس شديد بالخوف من خسارة ذلك كله، إذا ما رفعت الدول الغربية يد حمايتها عن منطقة شرق الفرات، وأقدم الجيش التركي على اقتحامها وتصفية وجود الحزب فيها، ودفع قياداته وعناصره الفاعلة إلى الهرب للاختباء مجددا في جبال قنديل المحاطة بالقواعد العسكرية التركية، والتي تحوم فوقها طائرات سلاح الجو التركي.
وخوف حزب العمال الكردستاني على خسارة الموجود في يده، ربما يدفعه إلى التفكير جديا في جدوى معارضته بمفقود لم يحصّله بعد، وهو الآمال العريضة للحزب بسلطة حقيقية في المناطق ذات الأغلبية الكردية في تركيا.
وفي الوقت نفسه فإن الحكومة التركية إذا أيقنت بصعوبة تحقيق أحلامها في القضاء على سلطة الحزب في مناطق شرق الفرات، فإن هذا الأمر قد يدفعها إلى إدخال هذه القضية في مفاوضاتها مع الحزب بخصوص نشاطه داخل تركيا، أي مقايضة سكوت النظام التركي عن الإقليم الذي يحكمه الحزب في مناطق شرق الفرات، بقبول الحزب التنازل عن نشاطه المسلح في الداخل التركي إلى الأبد، وإنهاء تقسيم الحزب نشاطه بين عسكري يقادُ من قنديل، وسياسي يقوده البرلمانيون المقربون منه في الداخل التركي، وذلك بالاقتصار على الجانب السياسي الديمقراطي فقط، والذي بدأ الحزب يحقق فيه ثمارا، بتمكن نوابه من دخول البرلمان بعد تجاوز عقبة العشرة في المئة من أصوات الناخبين التي وُضعت في وجوههم منذ زمن.
المفاوضات المستمرة منذ سنوات داخل زنزانة عبدالله أوجلان ويديرها غالبا رجل أردوغان في المخابرات حقان فيدان ستتسرب أخبارها في حال تحصل الأتراك من أوجلان على طلب صريح من مقاتليه بإيقاف العمل المسلح داخل تركيا، والانسحاب ربما باتجاه قنديل أو الداخل السوري، وسيعقبها خروج أوجلان من سجنه لتحقيق هذا التوجه بين أنصاره، وإضعاف تأثير المعارضين له من قيادات قنديل العسكرية خصوصا، وربما إيكال مناصب سيادية كبيرة لأتباع حزب الشعوب الديمقراطي في المرحلة القادمة طلبا لدعمهم لحكم أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي يشهد تراجعا في التأييد الشعبي منذ سنين.
إصرار الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين على الحفاظ على منطقة شرق الفرات بعيدة عن سيطرة النظام السوري، أو رغبتهم في إنشاء إقليم حكم ذاتي في هذه المنطقة كما يزعم النظام وحلفاؤه الروس، ربما يدفعان هذه الدول إلى دعم نجاح المفاوضات بين الأتراك وحزب العمال الكردستاني، طلبا لتخفيف حدة الصراع بين حليفيهما التركي والكردي، وربما تكون العقوبات الأميركية المفروضة على بعض قيادات الحزب في قنديل من باب الضغط عليها لمنعها من تخريب تلك المفاوضات بمعارضة داخل الحزب أو عمل مسلح كبير في الداخل التركي.
إن أردوغان أحوج ما يكون اليوم إلى تسجيل نصر سياسي في داخل تركيا بإعلان إنهاء الصراع المرير المستمر منذ عقود مع حزب العمال الكردستاني، خاصة أنه يدرك أن لا شيء بيده ليفعله تجاه سيطرة الحزب على مناطق شاسعة من سوريا، وأن استمرار هذه السيطرة قد يشجع الحزب مستقبلا على العودة للانتشار في المناطق المقابلة لها في الداخل التركي إن توفرت الفرصة، ولذلك فالأفضل إنهاء الصراع داخل تركيا نهائيا قبل ذلك، وهذا ما قد يقوي أيضا موقف التيار المتمسك بالحفاظ على إقليم “روج آفا” الذي بات في طور التشكل، وعدم المغامرة بما تحقق في سبيل صراع غير معروف النتائج داخل تركيا، ويعطي لهم قدرة في إقناع المتشددين تجاه تركيا باعتبار هذه المفاوضات بمثابة فرصة لالتقاط الأنفاس ريثما تتغير الأحوال داخل تركيا، وتتهيأ الظروف للعودة إلى المطالبة بالسيطرة على مناطق جنوب شرق تركيا، إن لم تؤد سبيل السياسة إلى تحقيق هذه الأهداف.
الأشهر القادمة ستكشف كثيرا من المواقف تجاه هذه القضية المعقدة، والتي لن تكون مواقف رجب طيب أردوغان وعبدالله أوجلان وحدها الحاسمة في تقرير مصيرها، وتحديد مستقبلها.