مضخة الصراعات تغذي تركيا بالنفط الرخيص

لا تقتصر استفادة الاقتصاد التركي من موقع البلاد الوسيط بين مراكز استخراج النفط والغاز الكبرى في العراق وإيران ودول بحر قزوين وبين مناطق الاستهلاك في أوروبا، إذ تتعدى هذه الفائدة الجغرافيا الاقتصادية للمنطقة إلى الجغرافيا السياسية المتعلقة بشكل أساسي بالصراعات والسياسات الحاكمة في محيط تركيا الإقليمي.
ومثلما زاد امتداد تركيا القاري وانفتاحها البحري من استقطاب أرضها لشبكة متعددة الاتجاهات لأنابيب النفط والغاز المتجهة من الشرق والشمال والجنوب باتجاه الغرب، فإن تواجد تركيا في منطقة مضطربة سياسيا أتاح لها وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية تحقيق فوائد اقتصادية كبيرة من تجارة النفط.
في فترة التسعينات من القرن الماضي، كانت حرب الخليج والحصار المفروض على تجارة النفط العراقي نعمة صبّت الخير الوفير في الخزائن التركية الخاصة والعامة، حيث قدم نظام صدام حسين كميات هائلة من النفط للحكومة التركية بالمجان، في الوقت الذي كانت فيه تركيا أحد أهم معابر تهريب النفط الخام.
ومازالت خطوط تهريب النفط العراقي عبر تركيا مفتوحة منذ ثلاثة عقود دون توقف، مستفيدة من الصراع المزمن بين الحكومتين المركزية في بغداد والإقليمية في أربيل على نفط المنطقة الشمالية.
وتتهم الحكومة المركزية في بغداد تركيا بتسهيل عمليات التهريب الهائلة لنفط كركوك الذي تقوم به حكومة الإقليم، للاستئثار بالعائدات المالية، خاصة في ظل استخدام حكومة بغداد للموازنة المالية كأداة ضغط على حكومة أربيل لإجبارها على الخضوع لها.
تواجد تركيا في منطقة مضطربة سياسيا أتاح لها وعلى مدى العقود الماضية تحقيق فوائد اقتصادية كبيرة من تجارة النفط
وكانت هذه المساعدة التركية للإقليم أحد العوامل المؤثرة في قرار الاستفتاء على استقلاله من العراق، والذي دفع الحكومة العراقية إلى السيطرة على كركوك ونفطها، لمنع حكومة كردستان من اتخاذ خطوة أبعد مدى في سعيها الاستقلالي، عن طريق حرمانها من العائدات المالية التي قد تساعدها على إدارة شؤونها باستقلالية عن الحكومة العراقية، وبهذا قطع الطريق الرمادي لهذا النفط، في حين تشير تقارير إعلامية إلى استمرار الطرق السوداء لتهريب نفط كركوك والموصل وشمال العراق باتجاه تركيا وإيران.
وفي سوريا، التي كانت تركيا محرومة من الاستفادة من نفطها بحكم امتلاكها لموانئها الخاصة التي تسمح لها بإدارة تجارتها النفطية كاملة داخل أراضيها، فتح الصراع الداخلي المستمر منذ 2011 أمام الأسواق التركية بوابة واسعة لتهريب نفطها.
واستفادت أنقرة من فقدان النظام الحاكم لسيطرته على معظم الحقول النفطية شرق البلاد، ووقوعها في أيدي العشائر والجماعات المسلحة التي وجدت في السوق التركية السوداء منفذا لبيع النفط بعد تهريبه عبر الحدود، الأمر الذي أوقع الحكومة التركية في اتهامات من مختلف الأطراف بتسهيل تمويل تلك الجماعات التي يصنف بعضها على قوائم الإرهاب.
كما لعب الصراع الجيوسياسي بين روسيا والدول التي يعبرها أنبوب الصداقة الناقل للغاز الروسي إلى أوروبا -وخاصة أوكرانيا- دورا أساسيا في إنشاء خط نقل التفافي يتجنب المرور عبر أوروبا الوسطى والشرقية ليدخلها من الجنوب. وتصبح تركيا بذلك الممر البري له بعد اجتياز المسافة البحرية منه والتي تخترق البحر الأسود، وتحصل على حسومات كبيرة في الأسعار وفوائد من العبور.
واليوم، في ظل الضغوط الكبيرة التي تمارسها الإدارة الأميركية على النفط الإيراني، فإنه من المرجح أن تعمل الحكومة التركية ورجال الأعمال المرتبطون بها على الالتفاف على العقوبات الأميركية التي أعلنت الحكومة التزامها بها بعد إلغاء الاستثناءات منها.
ومما يحفز هذا الأمر بالإضافة إلى التاريخ الطويل من العلاقات النفطية بين الحكومات التركية والإيرانية، استفادة الاقتصاد التركي من شراء النفط الإيراني بالليرة، الأمر الذي يخفف من المدفوعات بالدولار لقاء النفط المستورد من دول أخرى لحاجات الاستهلاك المحلي، كما أن إعادة بيع الفائض منه عن الحاجة بالدولار واليورو ستوفر فوائض من العملة الصعبة للمالية التركية التي لا تعيش أحسن أيامها.
واستفادت إيران كثيرا من السوق الرمادية التركية في التحايل على عقوبات أميركية سابقة تمنع استخدام الدولار في تجارة النفط مع طهران، وذلك عن طريق استخدام أموال النفط المودعة في تركيا لشراء الذهب ثم بيعه للحصول على الدولارات، وقد سبب افتضاح هذه اللعبة التي أديرت من خلال بنك خلق التركي أزمة كبيرة بين الولايات المتحدة وتركيا، خاصة مع اتهام وزراء في حكومة أردوغان بالتورط في تسهيلها.
وتشارك دول أخرى تركيا التحايل على العقوبات الأميركية على النفط الإيراني، حيث ذكرت تقارير إعلامية أنباء عن قوافل من الصهاريج تنقل النفط داخل الأراضي التركية بين الحدود الإيرانية والحدود الجورجية، التي تتهم بتوفيرها غطاء لعمليات تهريب النفط الإيراني أيضا.
إن النفط الخام القادم من مناطق العقوبات والصراعات رخيص لدرجة تمكن رجال الأعمال الأتراك من تحقيق عائدات مالية كبيرة من العمل كوسطاء دوليين في تجارته، خاصة مع الخبرة الكبيرة التي باتت بحوزتهم في ميدان الأسواق السوداء والرمادية، والشبكات الدولية التي باتوا مرتبطين بها، يمكن من خلالها إخفاء آثار عمليات التهريب والتسويق، هذا عدا عن البنية التحتية المهيئة لتشكل غطاء مناسبا لهذه العمليات، من خلال أدواتها المختلفة ومواردها النفطية المتنوعة، وفوق ذلك الغطاء الحكومي الذي يؤمن الحماية والتغطية والاستفادة من الموارد والبنى التحتية لتسهيل العملية ككل.
وباستمرار الصراعات في محيط تركيا الغني بالنفط سيستمر ضخ النفط الرخيص إلى أراضيها من طرق شتى، حتى لو كان ثمن ذلك خصومات مع الحكومات المجاورة أو الأوروبية أو حتى الولايات المتحدة الأميركية، فتقديم الاقتصاد على السياسة عادة تركية قديمة لن يتخلف عن اتباعها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته.