نادين لبكي: كفر ناحوم أطلق صرخة اللاجئين في وجه العالم

لم يكن الطفل السوري زين في “كفر ناحوم” المخرجة اللبنانية نادين لبكي سوى رسالة وجهتها إلى العالم، حيث رصدت من خلال رحلته سلبيات وفساد في العالم العربي، لتقدم قصة حياة اللاجئين وما يعانون منه بعد الفرار من ويلات الحروب، قبل أن يكتشفوا أنهم في حروب أخرى مع الحياة، والبحث عن لقمة العيش في ظل صعوبات وعالم لا يرحم أحدا. عن الفيلم الذي نافس على أوسكار أفضل فيلم أجنبي تحدثت نادين لبكي لـ”العرب” فكان هذا الحوار.
جاء الطفل السوري زين إلى الحياة قبل 12 عاما، رأى خلالها مآس وصعوبات تكفي رجلا في الستين من عمره.. هذا هو ملخص فيلم المخرجة اللبنانية نادين لبكي الأخير “كفر ناحوم” ونافست به على الأوسكار، والتي كشفت لـ“العرب” عن الكثير من أسراره، ولماذا قدمت وجها حمل براءة الأطفال وهموم الكهول، وتحدت به نفسها في تجربة جديدة وجهت من خلالها صرخة في وجه العالم.
عاش الطفل حياة المشردين، من بحث عن العمل وتحمله مسؤولية أسرة بالكامل، بينهم أبوان عاطلان، والهروب والقتل، ثم رفع دعوى قضائية ضد أبوين جاءا به إلى هذا العالم القاسي الذي لم يرحمه قط منذ لحظة ولادته، قائلا “بدّي أشتكي على أهلي”، ليتساءل القاضي “لماذا؟”، فيجيبه الطفل “لأنهم خلفوني (أنجبوني)”.
لم تكن قسوة الحياة هي التي ظلمت زين، وسرقت سنوات طفولته، بقدر ما جاء الظلم من أقرب الناس إليه، من والديه (سليم وسعاد)، حيث يتمثل ذنبهما في أنهما أنجباه ولا يشعران بحجم ما ارتكباه من جُرم، ينبغي أن يُعاقب عليه القانون، واستمرا في إنجاب الأطفال، واحدا بعد الآخر، إلى أن وصل العدد إلى ستة أشخاص، ولم يتحرك ضميرهم للحظة عندما يتضوّر الأبناء جوعا، أو عندما يتزاحمون عند نومهم في مكان ضيق، لا يتسع سوى لفردين فقط، أو حتى حينما ينزلون إلى الشارع للعمل جلبا للمال لأبوين عاطلين، وبلغت القسوة ذروتها عندما قرر الأبوان تزويج ابنتهما “سحر” القاصر، لتقضي نحبها بعد الزواج بعدة أشهر.
النقطة الأكثر إثارة
قالت المخرجة اللبنانية نادين لبكي لـ“العرب”، إنها اختارت أن تبدأ فيلمها من النقطة الأكثر إثارة للجدل، وهي مقاضاة زين لأبويه كترجمة للغضب الذي حرّكه لاتخاذ هذا الإجراء، وتعايشت مع الأطفال في الشوارع والسجون لفترة امتدت إلى أكثر من ثلاث سنوات، وكانوا يرجعون ما هم فيه من مآس إلى والديهما، وأنهما مسؤولان عما وصلوا إليه، وعندما كانت تسأل طفلا هل أنت سعيد لأنك جئت إلى الدنيا؟ تكون إجابته لا، لأن المجتمع لا يستحق وجودي، طالما لا يوفر لي حياة كريمة.
وكان أمام نادين لبكي تحد من نوع آخر، وهو ماذا تقدم في فيلمها وبأي طريقة تتناول القضية التي ما انفكت تتناولها القنوات الإخبارية ويراها العالم ليلا ونهارا؟ إلى أن نجحت في أن تأخذ زاوية تبدو عاطفية وتشكل نقطة ضعف عند العالم، وهي الطفولة وتدميرها الذي هو تدمير لجيل من المفترض أن يقود العالم في ما بعد.
وأكدت لـ“العرب” أنها حرصت قبل الشروع في تصوير الفيلم على أن تقدم العمل بدافع إنساني، لأن المُتابع للأوضاع في الدول العربية يدرك مدى تأثير الحروب والصراعات على حياة المواطن العربي، الذي يلجأ في النهاية إلى التهجير والغربة بحثا عن الأمان.
ودللت على ذلك باستقبال لبنان نحو مليوني لاجئ سوري، هربوا من الحرب في بلادهم، ليصبح المشهد المتكرر الذي يراه اللبنانيون كل صباح هو أطفال يتسولون ويتسكعون في الشوارع، بعضهم يمتهن أعمالا تفوق طاقته بحثا عن لقمة العيش.
وأضافت أن من أهم الأسئلة التي طرأت على ذهنها حينما رأت هذه الفئة في شوارع بلدها لبنان، ما الذي يمكن أن تقدمه لهم؟ وما دورها كسينمائية؟ قبل أن تتوصل إلى أنه لا بد لها أن تظهر ذلك عبر عمل فني يكشف أوضاع الأطفال المعذبين منذ نعومة أظافرهم، لأنهم أضعف وأرق المخلوقات، ويجب أن يخضعوا لاهتمام ورعاية لائقة.
وأوضحت نادين لـ“العرب” أن “العمل جرس إنذار لإيقاظ ضمير العالم، ورسالة لكل صاحب ضمير يعيش بيننا على كوكب الأرض، ففي بقعة ما يعيش أطفال حياة غير آدمية، ليكون الفن صوتا لهم”، متمنية أن يغير الفن شيئا من أوضاعهم السيئة، لأن هذه هي مهمة السينما لكونها قوى تنويرية وتوعوية وليست ترفيهية فقط.
نجحت المسؤولية التي ولدت مع زين في أن تشعره برجولته وأنه مسؤول أيضا عن أشقائه وغيور عليهم، وهو ما تبرزه نادين لبكي من خلال علاقة الطفل بشقيقته سحر التي وصلت إلى سن البلوغ دون أن تعلم شيئا عن الأنوثة، فيتولى دور الأم المشغولة بالإنجاب، ويعلمها كيفية التعامل مع هذا الموقف.
الفيلم استند إلى زاوية عاطفية مثيرة للجميع، وهي الطفولة وتدميرها، ما يعني تدمير جيل سيقود العالم لاحقا
وأشارت نادين إلى هذه الغيرة حينما يلقي بـ“الأندومي” التي تعشقها سحر في سلة المهملات، وهي هدية من صاحب “السوبر ماركت” الذي يحاول أن يكسب قلبها ببعض المأكولات، ليقربها منه ويتزوجها، ووافق والداه على زواج سحر.
ورصدت المخرجة اللبنانية في مشهد مؤلم محاولات الطفل الفاشلة للهرب وشقيقته، قبل أن تكتشفها الأم المشغولة بتحضير حقيبة ملابس ابنتها لتسلمها إلى عريسها، بينما يحاول زين منع هذه الجريمة ليتلقى جسده النحيل الضربات من والديه، وقرر مغادرة المنزل والبدء في حياة جديدة وشاقة بمدينة أخرى في لبنان.
أوضحت لبكي لـ“العرب” أن مثل هذه المشاهد الصعبة التي أدمت قلوب من يراها لم تقدمها بغرض إثارة تعاطف المشاهد فقط، بل تحريضه على الثورة داخل المجتمع على مثل هذه الأوضاع السلبية، وعدم التواكل أو التعامل معها وكأنها أصبحت أمرا طبيعيا من الممكن التعايش معه.
وقالت “ينبغي علينا أن ندفع الحكومات والأنظمة إلى إيجاد حلّ لهؤلاء الأطفال، كي يعيشوا حياة إنسانية، لأن أكبر جرم نرتكبه على هذه الأرض أن يتبرأ البعض من دورهم كبشر خُلقوا لتعمير الأرض، والصمت على مثل هذه الأمور مشاركة في الجريمة نحاسب عليها”.
بمغادرة زين منزل أسرته تقرر نادين لبكي في الفيلم أن تنقل وجها آخر للقصة، إذ تشير إلى أن المقصود أكبر وأعمق من قضية أسرة سورية مهاجرة تعاني الفقر والجوع فحسب، بل الأمر يشمل دولا أخرى، ولا يقتصر على الأطفال فقط، بل يشمل مجموعة بشرية تعيش على أرض واحدة، دون الإخلال بالقضية الرئيسية.
وتمثل ذلك في رحيل اللاجئة الأثيوبية القادمة إلى لبنان بجواز سفر مزور وبصحبتها رضيعها يوناس الذي تخبئه في حقيبة صغيرة، لتختلس بين الحين والآخر لحظات لإرضاعه في خوف من أن يكتشف صاحب العمل أمرها، قبل أن تلتقي زين الذي هرب للتو من عائلته، ويبحث عن فرصة عمل، لتسند له رعاية يوناس قبل أن تنقلب الأمور ويلقى القبض عليها.
قضايا متعددة
تتسع الدائرة تدريجيا وتكشف نادين لبكي من خلال الفيلم، أن هناك من يعمل على استقدام المهاجرين إلى لبنان بجوازات سفر مزورة، ووصل الأمر إلى حد الاتجار بالبشر، وكلها قضايا جعلت البعض يوجه اتهاما إلى نادين بأنها تبث روح اليأس وتنشر القبح من خلال فيلمها.
وكشفت نادين لبكي لـ“العرب” أن الهدف الرئيسي من وراء نقل كل هذه المآسي، إضفاء المزيد من المصداقية، لذا سلّط العمل الضوء على قضايا الهجرة والفقر وزواج القاصرات وتجارة الخادمات والمخدرات وحقوق الأطفال، وتطرق إلى أحد الأحياء المهمشة التي يعيش فيها زين المليئة بمثل هذه القضايا.
وتعمدت المخرجة اللبنانية إصابة المشاهد بصدمة، كي تخلق بداخله شعورا بالتقصير، وتجعله يتعايش معهم من خلال شخصيات مجسدة على شاشة السينما، وهو أمر حرصت على إبرازه عند التصوير ليكون في قلب المأساة التي هي بالأساس ليست بعيدة عنه، مع أن الحقيقة أبشع بكثير مما ظهر في الفيلم، “وكان فريق عمل الفيلم يعاني من حالة إحباط يومي عند التصوير”، وتساءلت “كيف لي أن أمنح الأمل للمشاهد في فيلم وهو مفقود بين أبطاله؟”.
ولفتت إلى أن الفيلم “كشف أحزمة البؤس من خلال ما يلقاه الطفل من أذى جسدي وبدني، وزين مجرد حالة من آلاف الحالات غير المسجلة في أوراق رسمية وفاقدي الأهلية، وهم من المحرومين من الحقوق الأساسية للحياة، من تعليم وصحة، مما يجعلهم عرضة لأمور كثيرة في مقدمتها التحرش والاغتصاب والعمل في سن غير قانونية، وارتكاب الجرائم دفاعا عن أنفسهم، وإلاّ كيف سيعيش ويدبر قوت يومه؟”.
وأكدت نادين أنها حصلت على دراسات أُجريت مفادها أن 75 بالمئة من الأطفال الذين يعيشون حياة زين يستسلمون للأمر الواقع ويكررون تجارب والديهم، بينما الـ25 بالمئة يبحثون عن حياة أفضل بعدما تشكّل داخلهم الوعي الكافي، من خلال التمرد والجرأة في التعامل مع مجريات الحياة.
بطولة حقيقية
من يشاهد أداء الطفل زين وشقيقته سحر ورحيل وطفلها يوناس، وباقي فريق عمل الفيلم، يشعر بأنه أمام ممثلين مخضرمين لديهم باع طويل في مجال التمثيل، وليسوا مجرد أشخاص عاديين تلقوا تدريبات لفترة قبل الوقوف أمام الكاميرا، لكن البعض يرى أن نجاحهم في تجسيد الدور يرجع إلى أنهم يعيشون مثله في الواقع، أما نظرات عيونهم التي تتحدث في لحظات الصمت في انسجام تام مع الكاميرا، فقد أكدت نادين لبكي أنها بذلت مجهودا غير التصوير للوصول إلى هذا المستوى من الأداء.
وقالت نادين لـ”العرب” إن فكرة الاستعانة بأبطال حقيقيين من الواقع كان تحديا كبيرا، جعل فريق العمل يشعر بالخوف والقلق في أوقات كثيرة، لأن عملية التصوير استمرت أكثر من 6 أشهر لخلق علاقة حميمية بين الممثلين، وتفهمهم للمهمة.
ولم يكن مطلوبا أن يؤدوا أدوارا تمثيلية، بل تكون حياتهم ردة فعل تلقائية لأوضاع معيشية عصيبة، وهو ما تطلب النزول إلى المناطق المهمشة، واختيار الأبطال من هذه البيئة بالفعل، ما جعل أداءهم للدور يأتي بشكل واقعي للغاية، كذلك الأمر مع الرضيع يوناس الذي يعيش دون ذويه، لأن أهله دخلوا السجن، وأيضا رحيل المهاجرة التي تم إيقافها بالفعل بعد يومين من التصوير.
وبخلاف العمل على أداء الممثلين أمام الكاميرا، واجه الفيلم صعوبات من نوع آخر تمثلت في الحصول على تصاريح للتصوير، والتي عطلت الفيلم لحين التفاوض مع الجهات المختصة للسماح بالتصوير، خاصة في السجون لأن المشهد في الفيلم كان لسجناء حقيقيين يقضون عقوبة الحبس.
وانتقد البعض فكرة اعتماد العمل في بعض المشاهد على الطابع الوثائقي، رغم تصنيفه روائيا طويلا، بسبب استخدام نادين مشاهدَ ترصد طبيعة منطقة عشوائية مكتظة بالفقراء وتوحي بأننا أمام “نهاية العالم”، ومشاهد السجن الحقيقية وتكدس المجرمين داخله، ومشاهد منزل أسرة زين التي جاءت وكأنها ترصد قصة حياة أسرة خارج الإطار الروائي المعهود، ومشهد المحكمة الذي رآه البعض من المتابعين خطابيا، ما جعلهم يشعرون بأن الفيلم منقسم إلى جزأين، الأول داخل المحكمة، والثاني في شوارع لبنان يرصد حياة زين.
وأكدت لبكي أن شعور البعض بأن الفيلم غلب عليه الطابع الوثائقي أكثر من الدرامي، يرجع إلى أسباب عدة، في مقدمتها أنها لم تمنح نفسها حق تخيل هذه القصة أو تجميلها، واعتبرت نفسها أمينة في نقل الصورة بما هي عليه ليكون العمل توثيقا لحياة طفل من بين ملايين الأطفال المشردين في العالم، أو وسيلة يعبر من خلالها الأبطال عن أوجاعهم وآلامهم.
وأوضحت لـ”العرب” أنه لا يوجد تناقض في العمل حتى وإن رأى البعض أن الجزء الأول كان خطابيا داخل المحكمة، والثاني سينمائيا، مؤكدة أن مشهد المحكمة كان ضروريا كإسقاط على المجتمع وأفراده الذين يلقون بالاتهامات القاسية على أبوي الطفل زين، بينما كان مهمّا أن يتعرف المشاهد على مبررات الأبوين وهل يستحقان التعاطف أم أنهما ارتكبا ذنبا بمجيء هذا الطفل إلى الدنيا؟ لنكتشف أن والدي زين ضحية جهل وتهميش وفقر وقهر وصراعات الأنظمة، ودفعا هذا الثمن.
واختارت نادين لبكي أن تغرق في المحلية، من خلال قضية تمس وطنها الأصغر لبنان والأكبر العالم العربي، لتبتعد عن إغراءات الشهرة وتهتم بالمضمون، ليخرجها العمل من الدائرة المغلقة التي دار فيها مخرجون عدة حلموا لسنوات بالوصول إلى العالمية، قبل أن يقعوا في الفخ دون أن يحققوا شيئا.
واقتنصت لبكي العديد من الجوائز في مهرجانات كبيرة مثل كان السينمائي، ثم تتوج مسيرتها بالوصول إلى القائمة النهائية في مسابقة الأوسكار، وهو أمر ليس بالهين، حيث لم تصل أفلام عربية كثيرة إلى هناك.
وأشارت لبكي لـ“العرب” إلى أنها كانت متيقنة من قوة العمل ومنافسته على جائزة الأوسكار، كأفضل فيلم أجنبي، لإيمانها بأن العمل عندما يشاهده أي إنسان سيحرك بداخله مشاعر ما، وهو ما تولد عندها في مرحلة تصوير الفيلم، حيث شعرت بأن هناك شيئا ما أكبر وأسمى وأعمق يمكن أن تقدمه، وأن الفيلم سيحقق الصدى المراد منه، لأن مشاهد كثيرة فيه مستقاة من الحياة اليومية، وليست تمثيلا أو قصة خيالية.
وشعرت المخرجة اللبنانية بالحزن وخيبة الأمل لعدم تتويج الفيلم بالأوسكار، مع أنه وصل إلى مراحل متقدمة في المنافسة بعد أكثر من عملية تصفية للأفلام، وانتابها شعور بأن المنافسة غير عادلة، لأن منافسها فيلم “روما” حظي بدعاية ضخمة جعلته يظفر بالجائزة.