فرنسا تحتفي بـ"مهندس الألوان" إيلزوورث كيلّي

إيلزوورث كيلّي فنان عدّه النقاد أحد أهم رموز الحركة التقليلية لفضله في إحداث ثورة في الفن الأميركي ما بعد الحرب.
الاثنين 2019/03/25
شكل جديد من التجريد

حتى موفّى شهر مايو المقبل، يحتضن مركز بومبيدو للفن المعاصر بالعاصمة الفرنسية باريس معرضا فنيا للأميركي إيلزوورث كيلّي، الفنان والنحّات التجريدي الذي يعتبر من أهم رموز الحركة التقليلية في الولايات المتحدة، ويوصف بمهندس الألوان.

في خريف 2014، انتظر عشاق الفن ومحترفوه قدوم إيلزوورث كيلّي بمناسبة تدشين متحف لوي فيتون في إحدى الضواحي الباريسية، بحضور الرئيس الأسبق فرنسوا هولاند، ولكن حالته الصحية لم تسمح له بذلك، فاكتفى بتسجيل حضوره من خلال بعض أعماله المميزة.

وكان حرص المنظمين على استضافته نابعا من علاقته بباريس، المدينة التي شهدت ولادة “سبيكتروم”، أشهر أعماله، في أربعينات القرن الماضي، حيث أقام حتى مطلع الخمسينات، وكانت قد شكلت فتحا في الفن المعاصر، وبداية حركة تجريدية سوف تشهد ازدهارها في أميركا، وتجلب نحوها أنصارا ومريدين.

هذا الفنان الذي فارق الحياة عن سن تناهز الثانية والتسعين (1923-2015) ترك بصمته من خلال أعمال صافية كنبع ماء، بسيطة كخيط، ولكنها من نوع السهل الممتنع، حيث تلتقي الفكرة والشكل في بنية هندسية تأتلف فيها ألوان تكاد تكون بسيطة وطبيعية بساطةَ الحياة وطبيعتَها، لتصوّر كيف يرى الفنان الواقع ويترجمه ليجعل الجميع قادرين على رؤيته، حسب عبارة بول كلي، فقد أعاد إيلزوورث كيلّي تحديد التجريد من خلال لغة تصويرية تقوم على أشكال مطهَّرة وأضواء ساطعة تمتح من العالم الذي يحيط به.

وفي هذا السياق، صاغ مجموعته الموسومة “نوافذ”، التي أنجزها خلال إقامته بباريس، وصارت منذ ذلك التاريخ الموتيف الذي ينهل منه إبداعاته، بدءا بـ”نافذة 1″ ذات اللونين الأسود والأبيض، التي لا تبدو فيها النافذة إلاّ في حال بنية، و”نافذة 2″ التي هي تنويع مجسَّد لما سبقها، و”نافذة 3″ ذات اللون الأبيض، والمرسومة بخيطٍ مَحوكٍ على القماشة، وصولا إلى “نافذة 6″ المأخوذة من نافذة بناية باريسية، إلى جانب “نافذة، متحف الفن الحي بباريس″ وهي بنية مطلية من الخشب والقماش، يستعيد فيها أبعاد نافذة حقيقية في متحف الفن الحي الأسبق (الذي تحوّل اليوم إلى قصر طوكيو).

وهذه اللوحة التي يقارب طولها مترا وثلاثين سنتمترا تأكيد على جمالية أسماها “ألريدي ميد” already made، ويؤكد أنها تختلف عن ريدي ميد ready-made مارسيل دوشامب، التي لا تعتبر في رأيه أكثر من تحويل شيء موجود دون تدخل من الفنان.

وقد كتب في مذكراته في نهاية الستينات أن تلك التجربة كانت منطلقا لأعمال لا علاقة لها بالرسم الزيتي، أعمال تقوم على إعادة كل شيء يراه إلى شكله الطبيعي، دون زخرف، يستوي في ذلك زجاج مصنع مكسور، وخطوط خارطة طريق، وركن لوحة لجورج براك، وأوراق منثورة في الشارع. كل شيء مناسب.

Thumbnail

وكمؤشر فني لديه، تفقد النافذة هنا كل دلالات الشفافية التي ارتبطت بها منذ بداية القرن الخامس عشر و”دي بيكتورا” لليون باتيستا ألبيرتي (1404-1472)، حين كانت النافذة تستوي مع اللوحة نفسها، وفي هذا نلمس تصوّر كيلّي لمعنى الفن التجريدي، وفهمه الخاص لدلالته، والعلاقة الجديدة التي يفترضها مع مشاهده.

يندرج فن كيلّي ضمن تقنية ما يسمى بـ”الطلاء ذي الحافة الصلبة” Hard-Edge Painting، تلك التقنية التي تحتفي بكتل لون كبرى مع حوافّ بارزة، فأغلب اللوحات لا تحتوي إلاّ على لون واحد أو كتلتين لونيتين متحاذيتين.

وهذا لا يعني أنه لم يجرب سواها، إذ سبق أن جرب التصوير الشمسي والكولاج، ولكنه آثر عليهما نوعا من التجريد مستمدا من ملاحظتِه الطبيعةَ والمحيطَ المبنيّ، أي أنه كان يهتم في مشاهداته ومقاربته للواقع بالطيور والنباتات، قدر اهتمامه بالبنى الهندسية، وتباين أنواعها.

ويتجلى ذلك في عمل بعنوان “حيّ” استوحاه بعد ليلة قضاها في مبيت الحي الجامعي الدولي بباريس، وقد احتوى على عدة ألواح مرصوصة الجوانب ذات حوافّ متموجة للتركيز على تراقص الأشرطة المطلية، رأى فيها النقاد ترجمة لقناعة فنية ترى اللوحات أشياء تاّمة الشروط، بدل أن تكون تمثلا لمواضيع خارجية.

ويضم معرض أعمال إيلزوورث كيلّي الذي يقام حتى موفى شهر مايو المقبل بمركز بومبيدو للفن المعاصر بالعاصمة الفرنسية باريس سلسلة “نوافذ” إلى جانب مجموعة من اللوحات والرسوم والتخطيطات وحتى الصور الشمسية، كما نجد أيضا آخر لوحة رسمها قبيل وفاته عام 2015، عنوانها “أبيض على أسود 3″، وهي عبارة عن لوحة بلونين أبيض وأسود، ذات أبعاد كبيرة، وعنصرين متضافرين، تحيل على نافذة المتحف، التي وضعت اللوحة بجانبها.

لقد كان إيلزوورث كيلّي رائد التقليلية، ومؤسس شكل جديد من التجريدية، دون أن يعلن ذلك أو يتبناه، رغم أن المؤرخين يعترفون بفضله في إحداث ثورة في الفن الأميركي ما بعد الحرب، عن طريق مقاربة غير مسبوقة للون، والأشكال، والأهمية التي يوليها للمتفرج.

في آخر حديث أجرته معه جريدة “الغارديان” البريطانية، تحدث عما كانت عليه الدروس الفنية في مدرسة متحف الفنون الجميلة ببوسطن عندما عاد إلى أميركا، قائلا “كانت تقليدية جدا، رسم العري طول الوقت، وبألوان قليلة.. كنت أعشق كادينسكي، بيد أني أردت القيام بشيء مغاير تماما”. وذلك مطمح كل فنان حقّ.

16