وسائل التكنولوجيا تؤثر على هرمونات الجسم كالأطعمة

أدمغة البشر تتلف تحت ضغوط الاستهلاك المفرط للتكنولوجيا، وإدمان مواقع التواصل الاجتماعي يهدد باضطرابات نفسية.
الاثنين 2019/03/25
سموم رقمية تفرزها الهواتف الذكية تهدد صحة البشر

وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة الرقمية لم تعد مجرد بنية تحتية تتيح للناس فرصا للتنفيس عن مشاعرهم ومشاغلهم الحياتية وتنسيق أنشطهم اليومية، بل أصبحت تمتلك تأثيرا كبيرا على الآلية الداخلية التي يعمل وفقها الجسم والعقل عل حد سواء تماما كما الأطعمة. وقد كشفت بحوث علمية مدى تأثير الاستعمال المفرط للهواتف الذكية على أدمغة البشر، حيث يتفاعل الدماغ مع الأجهزة الإلكترونية بطريقة مشابهة لتفاعله مع طعامه اليومي، إذ يفرز بشكل عام أنواعا مختلفة من الهرمونات العصبية، أي المواد الكيميائية التي تنشط الجهاز العصبي. وأشارت البحوث أيضا إلى ما تفرزه وسائل التواصل الاجتماعي من تفاعل وجداني من خلال العلاقات والصداقات التي تؤثر على نفسية المستخدم، فكما بوسع لايك الإعجاب أن يضفي شيئا من السعادة فان تعليقا سلبيا أو خبرا سيئا من شأنه أيضا أن يرفع منسوب التوتر والقلق وقد تعرضه للاكتئاب.

يؤدي الإسراف في أي شيء إلى نتائج عكسية، ورغم ذلك فإن الكثيرين ما زالوا لا يدركون حجم الضرر الذي يمكن أن تسببه المبالغة في تناول بعض الأطعمة التي يروّج إليها على أنها صحية، ونفس الأمر ينطبق على الأجهزة والتقنيات الرقمية، فهي مشابهة تماما للأطعمة، فبعضها أكثر نفعا، ولكن مضارها لا تقل عن فوائدها إذا لم يحسن الناس استخدامها، ولهذا ليس من المستغرب أن يحذر العلماء من السموم الرقمية التي يمكن أن تنتج عن الاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية.

ويقضي المراهقون والأطفال وقتا طويلا أمام شاشات الأجهزة بأنواعها يوميا، وتشير تقارير إلى أن الأطفال من سن 11 إلى 15 سنة يقضون من ست إلى ثماني ساعات يوميا أمام الشاشات، بالإضافة إلى الوقت الذي يقضونه أمام الكمبيوتر لتأدية الفروض المدرسية.

ووفقا لبعض الإحصائيات الحديثة هناك حوالي ثلاثة مليارات شخص حول العالم يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، أي ما يعادل 40 في المئة من سكان العالم، كما أن الأشخاص البالغين يقضون في المتوسط نحو ساعتين يوميا في تصفح هذه المواقع والتفاعل من خلالها، ويمكن القول إن هناك نحو نصف مليون تغريدة وصورة تنشر على موقع سناب شات للمحادثة كل دقيقة.

وتؤكد العديد من الأدلة العلمية أن الأجهزة الذكية تؤثر بشكل مباشر على بعض الهرمونات في الجسم تماما مثل الأطعمة، مما يؤدي أحيانا إلى إحداث خلل في وظائف بعض الغدد في الجسم.

أضرار الأجهزة الذكية على الهرمونات

لطالما كانت العلاقة بين الطعام ومدى تأثيره على الهرمونات وعملية التمثيل الغذائي للجسم موضع تكهنات ومصدر جدل كبير بين الخبراء في المجال الطبي، أما اليوم فإن البعض من الخبراء يساورهم القلق من الأضرار المحتملة للأجهزة الذكية على الهرمونات، التي تتحكم بصورة طبيعية في فسيولوجيا الجسم، ولذا يمكن أن تؤدي إلى اضطرابها أو تعيق عملها.

ومن المعروف تأثير بعض الأطعمة في عملية تنظيم الوزن والتحكم في الشهية مثل القرفة التي يعتقد أن لديها القدرة على زيادة معدل الأيض بنسبة 8 بالمئة بصورة مؤقتة لمدة 20 دقيقة عند تناولها، وهناك الكثير من الأطعمة الأخرى التي يشاع أن لها تأثيرا كبيرا على الهرمونات العصبية التي يضطلع بها الدماغ، والهرمونات التي تولّدها كل من الغدّة الدرقية والغدّتين الكظريتين.

المراهقون والأطفال يقضون وقتا طويلا أمام شاشات الأجهزة بأنواعها
المراهقون والأطفال يقضون وقتا طويلا أمام شاشات الأجهزة بأنواعها 

لكن يبدو أيضا أن الدماغ يتفاعل مع الأجهزة الإلكترونية بطريقة مشابهة، إذ يفرز بشكل عام أنواعا مختلفة من الهرمونات العصبية -أي المواد الكيميائية التي تنشط الجهاز العصبي- في جسم الإنسان وهي:

* السيروتونين (هرمون السعادة)، والمعروف بكونه مضادا طبيعيا للاكتئاب، والذي يُفرز عندما نكون مبدعين وعندما نتواصل مع الآخرين أو نشعر أننا نسهم بدور إيجابي في المجتمع.

ويرتبط هذا بشكل وثيق بالعلاقات الاجتماعية القوية، وقد تكون هذه العلاقات مع أشخاص في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن بعض هذه الصداقات قد لا تكون صحية، فالناس يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي للتنفيس عما بداخلهم، سواء حول موضوعات سياسية أو غيرها، لكن الجانب السلبي في هذا الأمر هو أن تعليقاتهم تشبه في الغالب موجة لا تنتهي من التوتر والضغوط.

ويمكن لتعليق واحد سلبيّ عن حالة الطقس السيء، من شخص يعيش في كندا على سبيل المثال، أن يؤثر على أصدقاء له يعيشون في مدن جافة، لكن الخبر السار أيضا هو أن المنشورات السعيدة تُحدث تأثيرا كبيرا على المزاج، فكل منشور سعيد يلهم (1.75) منشورا سعيدا أيضا.

*الإندورفين أو “مسكن الآلام”، وهو هرمون يتحكم في قدرة الدماغ على الاستقبال والاستجابة والإحساس بالألم أو الإجهاد، ويمكن أن يشكّل جزءاً من نظام تسكين الألم في الجسم، ويُفرز هذا الهرمون عند ممارسة التأمل الذهني والتمارين الرياضية التي تحسن اللياقة القلبية والتنفسية.

* الأوكسيتوسين، ويفرز الجسم هذا الهرمون عند التفاعل الوجداني مع الآخرين في ظل علاقات اجتماعية إيجابية، وهو مفيد بشكل عام، لكن المشاعر الناتجة عن إفراز هذا الهرمون قد يستفيد منها بعض الأشخاص لاستدراج ضحاياهم من الأطفال أو المراهقين عبر الإنترنت لابتزازهم واستغلالهم جنسيا.

* الدوبامين، وهو ناقل عصبي يرتبط بالمتعة والمكافأة الفورية، كما يرتبط بالإدمان، وقد صممت التقنيات والأجهزة الرقمية لتنشيط إفراز الدوبامين تحديدا.

روبرت لوستغ: تنبيهات الهواتف الذكية تجعل أدمغة البشر في حالة من الإجهاد، مما يؤثر على  الوظائف الإدراكية العليا بالمخ، وقد تتوقف عن العمل بعد فترة.
روبرت لوستغ: تنبيهات الهواتف الذكية تجعل أدمغة البشر في حالة من الإجهاد، مما يؤثر على  الوظائف الإدراكية العليا بالمخ، وقد تتوقف عن العمل بعد فترة.

ويتأثر دماغ الإنسان لحظة تلقيه تنبيها من هاتفه، ما يؤدي إلى إفراز هرمون “الدوبامين”، الذي يرفع مستوى الاستثارة في المخ، ويؤثر على المنطقة المسؤولة عن التفكير وإصدار الأحكام.

وأكد عالم الغدد الصماء، روبرت لوستغ، في إحدى الدراسات التي أجريت في هذا الصدد أن تنبيهات الهواتف الذكية تجعل أدمغة البشر في حالة من الإجهاد والخوف، مما يؤثر على بعض الوظائف الإدراكية العليا بالمخ، وقد تتوقف عن العمل بعد فترة. وقال “ينتهي بك الحال إلى القيام بأشياء غريبة جراء تراجع الوظائف الإدراكية العليا بالمخ، وتلك الأشياء تميل إلى تعريضك للمتاعب”.

وكانت المحللة النفسية الأميركية ليزا ميرلو قد لاحظت من خلال الأبحاث التي أجرتها أن البعض من مستخدمي الهواتف الذكية يركزون تفكيرهم عليها، لدرجة أنهم قد يتماهون معها وينسون حتى العالم المحيط بهم، مشددة على أن تزايد عدد الوظائف التي يقوم بها الهاتف الذكي يمكن أن يفتح الباب أمام “المبالغة في الارتباط بالجهاز”، وما يرافق ذلك من هواجس يغذّيها الخوف من ضياعه أو نفاذ بطاريته أو نسيانه أو فقدان الاتصال بالإنترنت، والأسوأ من هذا كله أن هناك من يشعر أنه لا يستطيع الاستغناء عنه، وقد يفضّل التنازل عن الكثير من الأساسيات في الحياة مقابل الإبقاء على هاتفه الذكيّ.

* الأدرينالين أو ما يعرف لدى الرياضيين بهرمون الكرّ والفرّ، ويفرز بوتيرة عالية في حالات الانفعال والتوتر وعند زيادة حدة الاندفاع أو الاستعداد لأي طارئ أو ظرف ينطوي على مخاطر صحية، وهو المسؤول عن مشاعر الاندفاع والشجاعة التي يشعر بها الرياضيون والمغامرون، لكن الدماغ يمكن أيضا أن يفرز هذا الناقل العصبي استجابة لتفاعلات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي سواء بالإعجاب أو محاولات جذب الانتباه.

* الكورتيزول، يفرز الجسم هذا الهرمون استجابة للضغوط النفسية، ولهذا يعاني عادة الأشخاص المنهكون والمحرومون من النوم والمشغولون ومشتتو الذهن من ارتفاع مستويات الكورتيزول في الدم.

وأظهرت دراسة طبية حديثة أن شبكات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” و”تويتر” من الممكن أن تسبب تأثيرات صحية خطيرة على مستوى هرمون الكورتيزول.

وأوضحت الدراسة التي أشرف عليها باحثون من جامعة مونتريال الكندية، أن الأشخاص الذين يمتلكون أكثر من 300 صديق على فيسبوك، معرضون لارتفاع مستويات هرمون الكورتيزول، وأكثر عرضة للإصابة بالقلق والتوتر والاضطرابات النفسية والميل إلى العزلة.

وأشارت الدراسة التي أجريت على عيّنة تتكوّن من حوالي 88 مراهقا أن امتلاك المئات من الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي، قد يضاعف مستويات القلق والتوتر لديهم، وقد يعرّض أصحابها للإصابة بالاكتئاب مستقبلا.

* الميلاتونين، وهو هرمون تفرزه الغدّة الصنوبرية وهي غدة صغيرة قطرها 7.2 ملم توجد في المخ، ويوجد الميلاتونين في جميع خلايا الكائنات الحية، وهو المسؤول عن تنظيم الإيقاع الحيويّ في كل من الإنسان والحيوان.

ومن المعروف أن أجسام البشر تتناغم مع إيقاع الصباح والمساء من خلال ساعة داخلية للجسم، تستخدم الضوء لتخبر عن التوقيت. لكن الضوء الأزرق، وهو طول الموجة الشائع في الهواتف الذكية والكمبيوترات اللوحية قد يؤدي إلى اضطراب الساعة البيولوجية.

الأشخاص الذين يمتلكون أكثر من 300 صديق على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك معرضون لارتفاع مستويات هرمون الكورتيزول، وأكثر عرضة للإصابة بالقلق والتوتر والاضطرابات النفسية والميل إلى العزلة.
الأشخاص الذين يمتلكون أكثر من 300 صديق على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك معرضون لارتفاع مستويات هرمون الكورتيزول، وأكثر عرضة للإصابة بالقلق والتوتر والاضطرابات النفسية والميل إلى العزلة.

ويمكن للضوء الأزرق وقت المساء أن يقلل أو يمنع إنتاج هرمون الميلاتونين المسبب للنوم.

تأثيرات صحية خطيرة

حذّرت بعض الأبحاث من استخدام الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية قبل الخلود للنوم، ليس فقط لأن استخدامها يحدث خللا في الساعة البيولوجية، بل لأن الضوء المنبعث منها يمنع إفراز هرمون الميلاتونين الذي يعمل على ضبط عمل جسم الإنسان والتحكم في دورات النوم والاستيقاظ.

وأظهرت الدراسات التي أجريت حول تأثير الضوء الأزرق على البالغين الأصحاء أن مثل هذه الأضواء تمنع إفراز مادة الميلاتونين في الجسم، وهو ما يؤدي إلى تشوش النوم، وقد يؤثر أيضا على جودة الحياة، وعلى الصحة البدنية والنفسية، وزيادة القابلية للمرض.

وفي حالة حدوث خلل في مستويات إفراز الميلاتونين، تتزايد مخاطر تعرّض الأشخاص لعدد من الأمراض، التي تتراوح ما بين الاكتئاب والسرطان، وخطر التعرض للسكتة الدماغية والنوبات القلبية، وبالتالي، فإن كبح هرمون الميلاتونين يعدّ أمرا مثيرا للقلق.

وتوصي مؤسسة النوم القومية في بريطانيا بعدم استخدام وسائل التكنولوجيا الرقمية قبل النوم بأقل من 30 دقيقة، وبإبعاد جميع أجهزة التكنولوجيا عن غرفة النوم.

لكن حتى الآن، لم يوص الخبراء بإرشادات خاصة للأشخاص الذين يعانون من مرض نفسي أو حساسية جرّاء اضطراب الساعة البيولوجية. ويبدو أن الاعتدال في استخدام الأجهزة والتقنيات الرقمية يمكن أن يخلص الأجسام من “السموم الرقمية”، لكن لا مانع من كسر بعض القواعد بين الحين والآخر، على غرار تعمد مخالفة الحمية الغذائية والاستمتاع بالملذّات كما هي، بدلاً من حمل هم كبير للتبعات على المدى الطويل.

وفي النهاية، قد يكون إشباع شغفنا بالوسائل والتطبيقات التكنولوجية بين الفينة والأخرى أمرا أساسياً للحفاظ على قوة إرادتك تجاه أهداف أكبر.

12