الأسئلة المحرمة تفضح المطبخ السري الذي ابتلع المثقفين

رواية "باب الخيمة" لمحمود الورداني تقدم قبح العالم عبر جماليات سردية تزاوج بين السرد التخييلي والواقعي تارة والتسجيلي أو التوثيقي تارة ثانية.
السبت 2019/03/23
مثقفون تحت أقدام السلطة (لوحة للفنان بسيم الريس)

تبدو علاقة المثقف بالسلطة علاقة شائكة، وتزداد ريبة كلما كانت السلطة استبدادية. فمفهوم المثقف العضوي وفقا لغرامشي هو إشكالي يقف على يسار السلطة ولا يكون ساعدها الأيمن. بل يؤسّس لحالة من التوازن بين السلطات إذا جنحت سلطة الدولة. ويعتبر المثقف حاملاً لتصوّر شامل أو وعي اجتماعي لمواجهة أي خرق أو انحراف في تعهدات الدولة والتزاماتها المطلوبة تجاه المجتمع. أما إذا حدث العكس أي صاروا تابعين للدولة مُستلبين للحكّام يُجَمِّلُون صورتهم، عندئذ يصبح المثقفون “خونة” وفقًا لوصف جوليان بندا أو بتعبير أنكى بمثابة “كلاب حراسة” وفقًا لمقولة بول نيزان.

تتقاطع رواية الكاتب محمود الورداني الجديدة “باب الخيمة” مع مرويات تناولت الصراع داخل مطبخ صاحبة الجلالة، وإن كانت تتغلغل في دروب ودهاليز المطبخ، وينقل لنا الكاتب الذي يتوارى خلف الراوي الضمني في النص، باحترافية خبير عاش في التجربة، الحكايات الخلفية التي تتستر وراء اللافتات العريضة والأسماء الكبيرة، وهي تخفي رحلة صعود وهبوط أسماء نتيجة لعلاقتها بأنظمة الحكم والأجهزة الأمنية، لا وفقًا للكفاءة والمهارة.

شرك العقيد

تقدّم رواية “باب الخيمة“، الصادرة عن دار العين، صورة عن المثقف التقليدي “المحافظ والمنبطح أبدًا للسلطة الحاكمة” كما في شخصيات يوسف الطويل وتوفيق الشيخ، ومن ثمّ تُلخص واقع الصحافة المترديّ، وكأنها إجابة عن الأسئلة الأهم: لماذا انحدرت الصحافة الورقيّة، ولم تعد مصدر ثقة؟

وأيضًا، لماذا غاب دور المثقف الحقيقيّ في ظل السلطات الجديدة التي أفرزتها ثورات الربيع العربي، بل تمت تنحيته بعيدًا عن المشهد بلا دور، وصار أشبه بالمتفرج الملتزم لا صوتا للمظلومين والمهمشين عكس ما يقول “ريمون أرون”؟ وهو الدور الذي دعا إليه كارل ماركس وهو يحثُّ الفلاسفة باعتبارهم في طليعة المثقفين على الثورة، بما هي فعل تغيير مستمرّ، قائلا في كتابه “أطروحات حول فيورباخ” «لم يفعل الفلاسفة إلى حدّ الآن غير تفسير العالم، آن الأوان لتغييره» وهي الإدانة التي وجهّها الناس للنخبة.

رواية تكشف صورا صادمة عن المثقف التقليدي
رواية تكشف صورا صادمة عن المثقف التقليدي

 تتوزّع الرواية على ثلاثة أقسام، منفصلة متصلة في آن واحد، حيث عمد المؤلف إلى عنونة كل قسم على حدة، وإن كان التنجيم ممتدًا عبر الأقسام الثلاثة. فصار القسم الأوّل بعنوان “الصوت والضوء” في إشارة إلى اسم الحزب الذي كان منضمًا إليه كمال الصاوي والد جمال. والقسم الثاني بعنوان “البهجة مع سبعاوي” وهو يحتوي على الجزء الخاص بالسّفر إلى ليبيا لتغطية معرض الكتاب، وذكرى الاحتفال بثورة الفاتح. وعبر العلاقة الثنائية التي تجمع بين الاثنين، إلا أنها تكشف عبر استعادة زمانية تعود إلى الستينات وكذلك السبعينات عن حَملات الاعتقال التي قام بها السادات ضدّ معارضي قراراته.

أما القسم الثالث فعنونه بـ”نوبة فوبيا”، يقصره الراوي على المقابلة لرجل الأمن الليبي الذي زاره السبعاوي، وحالة الفوبيا وتصوير الأجواء قبل لقاء الرئيس الذي يتحايل عليه جمال مُنصاعًا لمبادئه، ويهرب بعدما دبّر وسيلة للتخلّص من الموقف، وينجح في الهروب، دون أن تطأ قدماه باب الخيمة، في رمزية لعدم الخضوع والخنوع، وإن كان قد استجاب ذات مرة، بعد أن سجل اسمه يوسف مطاوع ضمن الوفد الذي ذهب إلى العراق.

 تأتي أهمية رواية الورداني “باب الخيمة” في كونها تقدّم قُبح هذا العالم المسرود عنه عبر جماليات سردية، تزاوج بين السرد التخييلي والواقعي تارة والتسجيلي أو التوثيقي تارة ثانية كما في حالة بحث جمال عن العالم السّري للقاهرة، وتصادف بكتاب الدكتور عبدالوهاب بكر “مجتمع القاهرة السّري“. وهو الذي يأخذ منه مقتطفات كثيرة، عبر لُغة سردية تتجاوب مع حالة الغنائية التي تسيطر على السّرد أحيانًا، وتتصاعد مع الدراميّة وإيقاعها في الحوارات والصّراعات، التي تُبرز بصورة واضحة عبر الاعتماد على اللغة البصرية، القريبة من مشهدية السينما.

 تصور الرواية مشاهد حيّة لواقع أليم، نتاج سُلطة مستبدة، وهي لا تختلف عن مثيلتها في سرت وطرابلس. وهذه المراوحة بين السّرد التخييلي والسّرد التسجيلي تنعكس على اللغة، التي تقترب في مناطق كثيرة من اللغة الاستقصائية التي تهتم بالرصد والتسجيل، دون الاهتمام بالزخرف الفني، فالغرض هو التوصيل والتبليغ. وفي بعضها تميل إلى لغة التداول اليومي. وعبر هذه الجمالية اللغوية والمراوحة السّردية، يستعرض الرَّاوي لنشأة الصحف المعارضة على مستوى الداخل والخارج.

كما تتعرض الرواية وإن كان عبر خيط غير أساسي في السرد إلى الحركات اليسارية السرية، والصراعات بين أطرافها، والمحن التي واجهتها وقد انتهت في بعضها إلى غلق دوائرها على نحو حركة الصوت والضوء التي كان ينتمي إليها كمال الصاوي، أو تلك التي انتمى إليها يوسف مطاوع، أو الانتحار كما فعلت أروى صالح، بعدما أدانت الحركات اليسارية في كتابها الذي سجلت فيه تجربتها وعلاقتها باليسار.

تحت المقصلة

الرواية عبر شخصياتها المحدودة تقدّم تشريحا للصراعات التي هي ملح مطبخ صاحبة الجلالة، والحروب الكبرى التي يقودها الكبار والتي تكون دائمَا قوائمها السفريات التي تغدق فيها الهدايا والمنح على أصحاب المكانة. كما تفضح التحرشات الجنسية والابتزازات التي يُمارسها رؤساء التحرير على الفتيات العاملات معهم.

محمود الورداني يقدّم قُبح العالم المسرود عنه عبر جماليات سردية
محمود الورداني يقدّم قُبح العالم المسرود عنه عبر جماليات سردية

 زمن الرواية الفعلي قصير لا يتجاوز الأسبوع منذ إعلان الدعوة إلى تلبيتها، إلا أنه مع هذا الزمن يتقاطع ويتداخل عبر بنية سردية تعتمد على التداخل وتعشيق الأحداث، وفق الاستدعاءات الخاصة، إلى زمن يمتد إلى عصور مختلفة، يجمع بين عبدالناصر والسادات ومبارك، عبر ثيمة الاستبداد واحتكار الصحافة وترويض الصحافيين، مع إغلاق منافذ اليسار.

 تتقاطع الرواية مع زمن السادات وبداية الصحوة الإسلامية التي انتشرت بين الأجيال الجديدة، وتأثيرها الفادح على الهوية الثقافية للمجتمع، كما عبرت هويدا فتحي زميلة جمال التي التزمت بالحجاب “فرارًا من النكد والتبكيت المستمريْن” وكذلك دورهم في تصفية اليساريين، وحملة الاعتقالات التي راح ضحيتها جمال نفسه ضدّ المعارضين لحالة اللاحرب واللاسلم.

 يمرّر الكاتب عبر هذه التقاطعات الزمنيّة التي هي أشبه باسترجاعات، طفولة جمال ونشأته لأب شيوعي دخل السجن. ومقابل شخصيتي جمال الرافضة للتدجين، تأتي شخصية يوسف مطاوع بوصفه “أحد كبار الأساتذة الذين يجيدون ارتداء الأقنعة” فكان مَرْضيًّا عنه من الجميع، ويحظى بكافة الامتيازات. رحلة صعوده سواء على المستوى الدراسي أو على المستوى العملي تؤكد على زئبقية هذه الشخصية، مقابل تصلُّب شخصية كمال، وجدلية الشخصيتين بمواقفهما تكشف عن حالة الصراع داخل دوائر صاحبة الجلالة، وطرائق الارتقاء والصعود إلى قمم مجدها، أو الهبوط إلى قاعها.

 ومع كل هذا فلم يحتفظ النص بذات الإيقاع القوي الذي بدأ به في القسم الأول، حيث مال القسم الثاني إلى التكرار خاصّة في شرب الحشيش، فثمة إسراف في التعاطي رغم التحذيرات لكليهما بخطورة الموقف، كما أن ذهاب جمال إلى المعرض وهو مسطول، دون أن يُكتشف أمره، ثم عودته وتذكره ما حدث لم يكن مقنعًا، على نحو ما بدا ظهور دلال مرة ثانية في هذا المكان. على اختلاف ظهور هويدا فتحي الذي أبان عن موجة التأسلم التي دخلتها البلاد، بعكس ظهور دلال الذي لم يفد شيئًا. وفي معظم هذه المقاطع مَالَ السرد إلى التكرار والإطالة وهو ما يحسب عليه.

15