كارهو الحياة يستكثرون على الشعب الفرح

المازوشيين لم يكفهم استعذاب فشلهم، وأرادوا إصابة غيرهم بعدوى لذة الأذى الذاتي، وحاولوا تعكير المزاج العام.
الثلاثاء 2019/03/05
عدوى الحسد والكره

جذب انتباهي في مدينة أسوان بأقصى الجنوب، الأسبوع الماضي، مقهى “ليفربول”، وتميمته صورة محمد صلاح المحترف في فريق ليفربول. وبجوار بيتي مقهى شعبي تتراص كراسيه في الشارع وأشاهد فيه، مع ابني آدم، مباريات مشفرة. وفي هذا المقهى وفي غيره صورة جدارية لمحمد صلاح الذي يتربص به البعض من العرب حسدا، ومن المصريين حقدا على شهرته وثرائه، فيعايرونه بتواضع أسرته ومستوى تعليمه، مع أنه لا يدّعي شيئا إلا أنه لاعب كرة. ولا يبالي الشعب بكارهي البشر، فينتظر فوز ليفربول ويتمنى أن يسجل صلاح في كل مباراة، كما سبق أن فرح البسطاء والأميون لنجيب محفوظ، ويحتفل عشاق السينما برامي مالك.

لأترك محمد صلاح وشأنه؛ فهو حالة شعبية تتجاوز حدود مصر. وأتوقف أمام كلمة محفوظ للأكاديمية السويدية، في الاحتفال بمنحه جائزة نوبل في 8 ديسمبر 1988 “أنا ابن حضارتين تزاوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهي الحضارة الفرعونية، والثانية هي الحضارة الإسلامية”، واستعرض اكتشاف مصر القديمة لفجر الضمير البشري، ودعوة الحضارة الإسلامية إلى الحرية والمساواة والتسامح، انطلاقا من “عظمة رسولها، فمن مفكريكم من كرّسه كأعظم رجل في تاريخ البشرية”، ولكن ذلك لم يمنع تكفير محفوظ، واغتياله معنويا، والشروع في قتله، “ولكن الله سلّم”.

حتى فوز محفوظ بجائزة نوبل لم يُعلن عن ردّة مسلم بسبب رواية “أولاد حارتنا”. ومنذ نشر الرواية مسلسلة في صحيفة الأهرام عام 1959 وهي متاحة، وقرأت وأنا طالب في الجامعة نسخة دار الآداب التي كان يبيعها الحاج محمد مدبولي صاحب أشهر دار نشر آنذاك.

فلما نال محفوظ الجائزة الأكثر شهرة في العالم، ونوّه بيان لجنة الأكاديمية السويدية للآداب بالرواية ضمن أربعة أعمال لمحفوظ، في حيثيات منح الجائزة، أصيب البعض بالجنون “حسدا من عند أنفسهم”، وعجز هواة إطفاء الفرح عن التحلي بأخلاق “الكاظمين الغيظ”، ولم يلتزموا الصمت، وجعلوا الرواية هدفا للقصف، فصدرت كتب منها “أولاد حارتنا فيها قولان” لجلال كشك، و”كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا” لعبدالحميد كشك. ويسهل تفسير الأمر بأنه رفض للجائزة لا للرواية، واستكثار السعادة على الشعب بأول جائزة نوبل للآداب تذهب إلى عربي.

وفي 24 فبراير 2019 حمل رامي مالك تمثال الأوسكار، بعد فوزه بجائزة أفضل ممثل عن تجسيده لشخصية فريدي ميركوري في فيلم “الملحمة البوهيمية”. فريدي ورامي كلاهما ابن للهجرة والطموح إلى الإنجاز والتحقق في عالم يمنح الموهوبين فرصا تعزّ في بلادهم. واستقر الأول في إنكلترا، وأصبح قائد فرقة كوين الموسيقية. وأما الثاني المولود في لوس أنجلس لأبوين مصريين فصعد بخطوات واثقة أهلته ليكون أول أميركي من أصل عربي يفوز بالأوسكار. وقال في كلمته بعد تسلمه الجائزة “أنا ابن مهاجرين من مصر”.

البشر الطبيعيون من المصريين فرحوا بالجائزة، ورأوا لأنفسهم نصيبا فيها، وسمّى البعض رامي مالك “ابننا”، كما يحلو لهم تسمية محمد صلاح.

وقبل إعلان الفائز بالجائزة، التف أهله وأقاربه في قرية فلتاؤوس بمحافظة المنيا، حول شاشات التلفزيون لمتابعة الحفل مباشرة، يترقبون في قلق يشبه اللحظات السابقة على إعلان الدولة المنظمة لكأس العالم، وقال قريبه فادي لرويترز عبر الهاتف “كأننا نشاهد مصر تسجل هدفا لتفوز بالكأس… هذا ليس فوزا للعائلة بل لمصر”.

ولكن المازوشيين لم يكفهم استعذاب فشلهم، وأرادوا إصابة غيرهم بعدوى لذة الأذى الذاتي، وحاولوا تعكير المزاج العام، فأعلنوا بسرعة أن الشاب أميركي، وتساءلوا عن علاقة الفيلم وبطله بمصر التي لم ينشأ فيها؟ وأخرجوا من جراب التشاؤم كلا من أحمد زويل وعمر الشريف ومجدي يعقوب، وأعجبتهم مقولة “النجاح يبدأ من مطار القاهرة”، وضحكوا وحدهم على نكات قديمة تثير الأسى على قائليها، بأن صلاح لو ظل بمصر للعب في ناد صغير، وكان رامي سيبحث عن دور في فيلم تجاري، في تبسيط مخلّ وتسطيح لقيمة ما تقدمه المنصات الحضارية للموهوبين من فرص لإطلاق طاقاتهم، عبر تنافس حرّ تحكمه الكفاءة.

عربيا، أدت مصر هذا الدور الجاذب منذ نهايات القرن التاسع عشر، وما كان لأصوات عربية مرموقة أن تصل إلى دائرة أكثر اتساعا لو لم تمر بالقاهرة، مع وجود استثناءات نادرة، مثل فيروز، تؤكد هذه القاعدة.

وعالميا، توجد منصات لا يغني عنها غيرها، وهي محكومة بالقدرة على إعداد المواهب واستثمارها. ولم يكن جبران ليصير الرمز الأدبي العربي الأشهر في العالم لو عاش في لبنان، وكذلك المعمارية العراقية زها حديد، ومن المصريين عمر الشريف وأحمد زويل ومجدي يعقوب وعالم الطبيعة مصطفى السيد. وليست الظاهرة عربية، ولنا أن نتخيّل مصائر هؤلاء بعيدا عن الولايات المتحدة: ميل جيبسون ونيكول كيدمان وكيت بلانشيت في أستراليا، وروبرت دي نيرو وفرانسيس فورد كوبولا في إيطاليا، وتشارليز ثيرون في جنوب أفريقيا. وفي كرة القدم أيضا يسهل افتراض بقاء هؤلاء في بلادهم: رياض محرز في الجزائر، وليونيل ميسي في الأرجنتين، ولوكا مودريتش في كرواتيا، وكافاني وسواريز في أوروغواي، والقائمة تطول في كل المجالات.

ولم يتهم الجزائريون آسيا جبار بالخضوع لإكراهات فرنسية حين أصبحت عام 2005 أول عضو عربي في الأكاديمية الفرنسية، “مجمع الخالدين”. وفرح اللبنانيون لأمين معلوف عندما صار ثاني عضو في الأكاديمية نفسها، عام 2011. وقبل ذلك فرح تونسيون لحصول فيلم “المريض الإنكليزي” على عدد من جوائز الأوسكار عام 1996، لأنه صور في بلادهم، وكانت أحداثه تدور في مصر، ومنعت البيروقراطية الرقابية تصويره في أماكنه الطبيعية، فانتقل المخرج إلى تونس التي اعتبرت الفيلم يخصها بشكل ما. لقد امتلكت الشعوب الثلاثة مهارة استقبال الفرح.

في مهرجان القاهرة، نوفمبر 2018، كنت أشاهد ثلاثة أفلام يوميا، ولم أسأل إلا عن ممثليْن اثنين. الأول بطل الفيلم المصري “ليل خارجي” شريف الدسوقي الذي نال جائزة أفضل ممثل في المهرجان، والثاني لم يكن بطل فيلم “فراشة” للمخرج الدنماركي مايكل نوير. عرض فيلم “فراشة” خارج المسابقة، ولم يشدني كثيرا أداء بطله البريطاني تشارلي هونام، وإنما شريكه الممثل الثاني الذي يخطف العين، من أول مشهد بعد مرور الجزء الأول من الفيلم، وكانت نظراته أكثر صدقا واقتصادا في التعبير عن انفعالات مكبوتة، وملامحه تختزل صراعا وأسى أثقل من أن يحتمله جسده النحيل، ولم يكن إلا رامي مالك، وهو الآن “مطلوب أخلاقيا”؛ لتجسيده شخصية مطرب مثلي، فهل “يحرم” على الممثل أداء شخصية قاتل أو منحرف؟

8