انتخابات الصحافيين.. مشهد مسرحي ختامي لمهنة تحتضر

من بين 9266 صحافيا لهم حق التصويت في انتخاب مجلس النقابة والنقيب، لم يحضر الجمعة 1 مارس 2019، إلا 716 عضوا، بنسبة 7.16 في المئة من أعضاء الجمعية العمومية. وبذلك لم يكتمل النصاب القانوني، فتأجلت الانتخابات إلى 15 مارس.
هل هو اليأس والشعور بعدم الجدوى؟ ربما يتفق أغلب الغيورين على الصحافة أنها مهنة تحتضر في مصر، ولم يبق إلا إعلان الوفاة، والاستعداد لما بعد طقوس الدفن. ولا تخلو أي طقوس من تمثيل، فمسرح العبث الحالي مضحك ويدعو إلى الأسى، ويشارك فيه الجميع، ولكلٍ دور محفوظ، وليس مكتوبا بالضرورة على الجبين.
في عام 2016 وصف عبدالفتاح السيسي مصر بأنها “شبه دولة”، وصدق في تلخيص مشهد عام؛ سخط المؤسسات والهيئات والنقابات نماذج تمثيلية مصغرة، تحمل بصمات المسرح الكبير وملامحه وهواجسه، ففي شبه الدولة لا شيء حقيقيا إلا الشعب المنتبه إلى مساخر اللعبة المسرحية.
وكان يقبع في “الكمبوشة” ملقّن لا يراه الجمهور وهو يمسك النص؛ ليذكّر الممثلين إذا نسوا، وإذا لم ينتبه الممثل الساهي عن الحوار والملقن فإن الأخير ينفعل، ويعلو صوته فيسمعه مشاهدون في الصف الأول. وتخلو المسارح الحديثة من الكمبوشة التي انتقلت إلى وسائل الإعلام كلها، ولا تخطئ عين أو أذن تشابها إلى درجة التطابق بين ما يقوله المذيعون عن القضية الواحدة، وما تنشره الصحف أيضا، وتلك من طبائع النهايات، أن تتعدد الأصداء المتشابهة لصوت رجل الكمبوشة.
ولا يخفى على متابع أن الصحافة في مصر مهنة تحتضر عن عمد، فالسيسي يكره الصحافة، ويريدها طابورا مصطفّا ينفذ التعليمات، مثل طوابير المعسكرات تتلقى الإملاءات. وهذه الحقيقة لا تمنع استمرار تمثيلية انتخابات نقيب الصحافيين ومجلس النقابة. ويلعب المال الصحافي السياسي دورا حاسما، ويفوز بمنصب النقيب من يستطيع التدلل على الحكومة، وينتزع منها وعدا بزيادة “البدل” المادي الضروري في ظروف اقتصادية قاهرة.
تمنع مؤسسات صحافية دولية في مصر صحافييها من أن يأخذوا هذا “البدل”، وتراه رشوة حكومية تحول دون موضوعية الأداء المهني. ولكن المشهد منذ أربعين عاما مربك ومرتبك، فالمهنة أفقدها المهابة نقباء ورؤساء مجالس إدارة مؤسسات ورؤساء تحرير لا يُسألون عمّا يفعلون، ويعطون عقود عمل صحافية لموظفي الأمن وسكرتيرات لا تستقيم لهن جملة مفيدة. والنقابة تلتزم بضمّ كل من يمتلك عقد عمل في مؤسسة، حتى لو كان جاهلا بالمهنة ولا يستطيع كتابة خبر، في وقت يُحرم فيه موهوبون من خريجي كلية الإعلام من الانضمام إلى النقابة؛ لأنهم فشلوا في التكيف مع مؤسسات حكومية سلطوية، وليس معهم عقد رسمي من صحيفة خاصة أو حكومية أو حزبية.
المشهد الآن: شبه دولة، شبه برلمان، شبه دستور، شبه نقابة، شبه انتخابات، شبه مؤسسات صحافية يفترض أنها مستقلة وبنص دستوري. وبعد هذه السلالة والسلسلة من الأشباه، لا أثر للمهنة في نهاية النفق. ومن يقارن الأداء الصحافي الآن يكتشف أنه تراجع عن طموح الشيخ محمد عبده حين دفعته همّته وغيرته إلى أن يجعل من “الوقائع المصرية”، عام 1879، جريدة تراقب أداء الحكومة، ويشتريها مواطن يثق بوجود خدمة مهنية أكبر من ثمن النسخة. وبعد 140 عاما لا يضطر المواطن إلى شراء الصحف التي تعاني الكساد، ويتربص بها أولو الأمر ويكرهونها، ويجد المواطنون في الإعراض عنها حرية وحيدة في ظل القبضة البوليسية.
الإعلام الآن ليس إعلاما، مجرد ميكروفون ينتظر إشارة بما يسمح بإذاعته. ولا يتعلق الأمر باستبداد معلن، وإنما بتواضع المستوى المهني لرؤساء تحرير فلا يجرأون على أن يكونوا أندادا. ولن تجد الآن أحدا يشبه نماذج إحسان عبدالقدوس وأحمد بهاءالدين ومحمد حسنين هيكل، على سبيل المثال.
في نوبة حماقة لجهاز الأمن كاد يعتقل أحمد بهاءالدين نقيب الصحافيين. وكان الرأي العام ساخطا على قادة سلاح الطيران، ويحملهم مسؤولية هزيمة 1967، وتظاهر طلاب الجامعة عام 1968 أمام النقابة؛ اعتراضا على أحكام قضائية وطالبوا بإعادة محاكمة القادة، وأيّد مجلس النقابة مطالب المتظاهرين، وكتب النقيب بيانا منحازا إلى الشارع لا المشرّع، وجرى شروع في اعتقاله، فرفض جمال عبدالناصر اقتناعا بوطنية بهاءالدين ونزاهة ضميره، لأن “بهاء مخه كده”. وبعد انقلاب 15 مايو 1971 فوجئ بهاءالدين بنقله إلى مؤسسة روزاليوسف، بعد أن كان رئيس مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال، فأرسل إلى أنور السادات رسالة غاضبة مؤكدا أنه ليس “أحد اختراعات الثورة، فمن حقي أن يؤخذ رأيي في أي أمر يتصل بي شخصيا، فلا أقرأه في الصحف دون سابق علم ولا أتحرك كقطعة شطرنج من مكان إلى مكان بلا رغبة”.
وفي 27 مايو 1995 صدر “قانون اغتيال الصحافة”، رقم 93 لسنه 1995، والذي وصف بأنه يحمي الفساد ويقيد الحريات. في ذلك اليوم دعي أعضاء اللجنة الدستورية والتشريعية لمجلس الشعب، من دون سابق إخطار بطبيعة مشروع القانون الذي تم إقراره، وحمل رقما وصار قانونا. وتقول المادة السادسة والأخيرة في القانون إنه صدر برئاسة الجمهورية في 28 ذي الحجة 1415 هجري، الموافق لـ28 مايو 1995 ميلادي، “وينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية، ويعمل به من اليوم التالي لتاريخ نشره، يبصم هذا القانون بخاتم الدولة، وينفذ كقانون من قوانينها”.
ولكن القوة على الأرض فرضت قانونا آخر. ففي 10 يونيو 1995 وقفت نقابة الصحافيين وقفة تاريخية ضد قانون طبخ على عجل، في تحدٍ لمجلس الشعب، وطالبت مبارك بإعادة القانون إلى البرلمان، وذلك في اجتماع تاريخي سيكون هو يوم الصحافي (10 يونيو)، وفيه أعلنت الجمعية العمومية دخولها اعتصاما مفتوحا، حتى يلغى القانون. وقرأ سكرتير النقابة يحيى قلاش، نقيب الصحافيين بعد ثورة 25 يناير 2011، رسالة محمد حسنين هيكل إلى الجمعية العمومية، وقال فيها إن إعداد هذا القانون وإقراره أسوأ من محتواه، “ذلك أن روح القانون لا تقبل منطق الخلسة والانقضاض، وإنما تقبل منطق إطالة النظر والحوار… وأشهد آسفا أن وقائع إعداد القانون كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع أحكام. إن هذا القانون في ظني يعكس أزمة سلطة شاخت في مواقعها، وهي تشعر أن الحوادث تتجاوزها، ثم إنها لا تستطيع أن ترى ضروريات التغيير… وكأن حركة والتفكير والحوار والتغيير تستحق أن توضع في قفص”.
استمرت الأزمة عاما من التفاوض، وأدت قوة الضغط إلى إلغاء القانون المشبوه، في يونيو 1996، وإقرار قانون جديد للصحافة التي يحتاج بعثها إلى ثورة، ليس أقل من ثورة كاملة.