روبرت ميناسه يكتب في "العاصمة" رواية الاتحاد الأوروبي

رواية فريدة من نوعها، تأتي ترجمتها إلى العربية في لحظة يشهد معها الاتحاد الأوروبي برهة مصيرية تضعه على حافة خطرة قد يتعرض معها إلى التفكك. وقد أكد المترجم سمير جريس أن ترجمته للرواية التي حازت عام 2017 جائزة الكتاب الألماني “العاصمة” للكاتب النمساوي روبرت ميناسه، شغلته طيلة العام الماضي واستنفدت جهده، لاسيما بسبب التعددية اللغوية فيها. واعتبر أن الرواية التي صدرت حديثا عن دار “آفاق” القاهرية أهم عمل ترجمه في السنوات الأخيرة، وقال “هذه رواية كبيرة بكل معنى الكلمة، ليس فقط في ما يتعلق بحجمها 550 صفحة في الطبعة العربية، بل بسبب موضوعها وتعدد زوايا معالجته”.
وأضاف جريس أن الكاتب النمساوي برع في رسم شخصيات من دم ولحم، شخصيات متباينة كل التباين، يتعاطف معها القارئ كلها. ورغم “ثقل” الموضوع الرئيسي، أي الاتحاد الأوروبي، فقد نجح الكاتب في كتابة رواية شائقة، لا تخلو من سخرية ومرح، يختلط فيها البعد البوليسي بالبعد الاجتماعي والسياسي، ولهذا نالت الرواية احتفاء نقديا وجماهيريا واسعا عقب صدورها، كما أثارت نقاشا كبيرا حول أوروبا والاتحاد الأوروبي ومؤسساته، وهي العمل الأول الذي يتناول الاتحاد الأوروبي روائيا. وبرأيي، “لقد نجح الكاتب في ذلك تماما”.
وأشار جريس إلى أن صحيفة “زودّويتشه تسايتونغ” الصادرة في ميونيخ قالت عن الرواية “في هذه الرواية يسير ميناسه متوازنا على حبل عال مشدود بين الرواية البوليسية والرواية الاجتماعية”. أما أسبوعية “دي تسايت” الألمانية فرأت أنها “رواية أنيقة، رائعة البناء، ومفعمة بالسخرية والأفكار”. واعتبرت “الإذاعة النمساوية” الرواية ليست “مجرد رواية أفكار أو رواية حقبة بكاملها، كما أنها ليست بارعة فحسب، إنها رواية ممتعة ومحفزة وكاشفة، تظهر فيها أوروبا في ضوء جديد”. وحسب موقع “ليتريكس″ الألماني فإن روبرت ميناسه أحد الكتاب الشغوفين بأوروبا.
مرة بعد أخرى دافع الكاتب النمساوي عن مشروع الوحدة الأوروبية في كتابات سجالية، فلسفية وسياسية، وفي الوقت نفسه كان يُعرب عن قلقه الناجم عن الأخطار المحدقة بالاتحاد الأوروبي، في ما يتعلق بالتضامن والانفتاح نحو العالم والاستقرار، وذلك عبر النكوص إلى التفكير القومي، والصراعات التنافسية، والبيروقراطية، وضيق الأفق. في مقالته المنشورة عام 2012 بعنوان “الرسول الأوروبي” تساءل ميناسه عما إذا كانت المفوضية الأوروبية “صالحة لكتابة رواية”. وها هو يجيب عن السؤال بروايته المتألقة “العاصمة” التي فازت بجائزة الكتاب الألماني في عام 2017، ثم غزت قوائم أفضل المبيعات في المنطقة المتحدثة بالألمانية.
ولفت إلى أن الكاتب النمساوي بعد استقصاء وبحث استمرا لسنوات في بروكسل، وجد شكلا لروايته الحافلة بالشخصيات، وهو ما يذكرنا بالفيلم الكلاسيكي للمخرج روبرت ألتمان Short Cuts. بدلا من التركيز على شخصية أساسية فإننا نصادف هنا ـ وهو ما يتطابق مع المؤسسة الأوروبية متعددة الأطراف ـ سلسلة من الأشخاص الفاعلين الذين يتقابلون مع بعضهم البعض في متاهة المؤسسات الأوروبية في بروكسل، إما مصادفة أو بعد ترتيب، فيعقدون تحالفات، أو يتحاربون ويحيكون المكائد لبعضهم البعض. وما يلفت النظر أننا لا نجد مبادئ مشتركة حقيقية تجمع بينهم، أو تفاعلا بين الشخصيات، بل إن كلا منهم يعدو وراء مصالحه الذاتية الضيقة: هنا تظهر أيضا المبالغة الساخرة التي تجعل قراءة البورتريه الذي كتبه روبرت ميناسه عن الاتحاد الأوروبي قراءة ممتعة للغاية.
وقال جريس أن المحور الذي تدور حوله هذه القصص الحافلة بالوقائع هو الحدث الكبير المرتقب، الاحتفال باليوبيل الذهبي حول تأسيس الاتحاد الأوروبي. من أجل إقامة “مشروع اليوبيل الكبير” طلبت فينيا كسينوبولو، المديرة القبرصية في الإدارة العامة للثقافة، من الموظفين لديها أفكارا جديدة. خلال رحلة عمل رسمية إلى بولندا يعثر الموظف النمساوي مارتِن سوسمان ـ وهو ابن أحد مربي الخنازير وشقيق أحد العاملين في “جماعة اللوبي” لصالح مربي الخنازير ـ على الفكرة المناسبة، وهي جعل أوشفيتس مركز الاحتفالات: على المكان الذي وقعت فيه الجريمة الألمانية ضد البشرية أن يصبح رمزا لـمقولة “لن يتكرر ذلك أبدا”، ورمزا للتغلب على المشاعر القومية ولتجاوز المصالح الأقلوية لكل دولة. هذه العلاقة الغريبة والقاتمة ستصبح المحرك للحملة التي يصورها ميناسه بوعي تاريخي تحليلي حاد، وبروح دعابة عالية. خنزير بلا صاحب يظهر في بداية الرواية وهو يركض بلا هدف في شوارع بروكسل، هذا الخنزير هو الصورة المرحة المعبرة التي يتكرر ظهورها حتى نهاية الرواية.
وأوضح “في طواحين المشروع المحمّل بالأهداف الأخلاقية، والذي تحيط به نقاشات بابلية لا يفهم فيها أحد أحدا، نقابل ناجيا من الهولوكوست انتهى به الحال نزيلا في دار مسنين في بروكسل، وأستاذَ اقتصاد متقاعدا يريد إقامة ‘عاصمة أوروبا’ المثالية على أرض أوشفيتس. تتقاطع طرق الشخصيتين في مقابر الجنود حيث يرقد المناضل في حركة المقاومة برونفو، جد المفتش الجنائي الذي يحقق في جريمة قتل ثم يكتشف مؤامرة يقف الفاتيكان وراءها. وسط كل هذه التشابكات المحفوفة بالمجازفة يمسك ميناسه بكل اقتدار بخيوط الرواية، راسما صورة معقدة للأوضاع الاجتماعية تختلط فيها الكوميديا بالتراجيديا، كما تختلط فيها جدية الرؤية الأوروبية بالسخرية من عملية تفكيكها على نحو يُصيب القارئ بالدوار. وخلف تلك الصورة تظهر انعكاسات متقنة لملحمة أوروبية كبيرة أخرى، وهي رواية روبرت موزيل ‘رجل بلا صفات’، التي تعتبر بمثابة تغريدة البجعة في عصر
الملكية النمساوية المجرية – وهي كذلك صرخة تحذير لمصير الاتحاد الأوروبي”.
خنزير يهرول أمام سيارة أجرة
فصل من الرواية
خنزير! خنزير، هناك! رآه دافيد دو فريند عندما فتح إحدى نوافذ غرفة المعيشة حتى يلقي نظرة على الميدان للمرة الأخيرة قبل أن يغادر هذه الشقة إلى الأبد. لم يكن إنسانا عاطفيا. لكنه سكن هنا ستين عاما، ستين عاما وهو يطل على هذا الميدان، والآن ها هو يهجر الشقة. هذا هو كل شيء. كانت تلك هي عبارته المفضلة؛ عندما يحكي شيئا، أو يقدم تقريرا أو شهادة عن شيء، كان يقول جملتين أو ثلاث جمل، ثم يختتم كلامه قائلا: ”هذا هو كل شيء”. كانت تلك العبارة في اعتقاده هي الخلاصة المشروعة الوحيدة لكل لحظة أو مرحلة من مراحل حياته. كانت شركة النقل قد نقلت المتعلقات الشخصية القليلة التي سيأخذها معه إلى عنوانه الجديد. “المتعلقات الشخصية” – لفظ غريب، لكنه لم يترك أثرا في نفسه. بعد ذلك حضر رجال الشركة المختصة بإفراغ الشقة من كافة محتوياتها الأخرى، لم يأخذوا معهم كل الأشياء الخفيفة أو غير المثبتة فحسب، بل انتزعوا من الشقة كل شيء، حتى المسامير، ثم فكوا كل شيء ونقلوه، إلى أن أصبحت الشقة خالية ونظيفة. كان دو فريند قد أعد لنفسه فنجانا من القهوة مستغلا وجود الموقد وماكينة الإسبريسو قبل أن يُنقلا، وراح يشاهد الرجال، مُراعيا ألا يقف في طريقهم. ظل ممسكا بالفنجان الفارغ فترة طويلة في يده، وفي النهاية ألقى به في أحد أكياس القمامة. بعد ذلك انصرف الرجال. الشقة خالية. خالية ونظيفة. هذا هو كل شيء. نظرة أخيرة من النافذة. لا شيء بالأسفل لا يعرفه. عليه أن يغادر الشقة، لأن الوقت قد تغير – والآن رآه.. فعلا: هناك خنزير في الشارع! في قلب بروكسل، في ميدان “سانت كاترين”. لا بد أنه جاء من شارع “دو لا براي”، راكضا بامتداد السور المعدني أمام المنزل، انحنى دو فريند ومد قامته خارج النافذة وشاهد كيف انعطف الخنزير يمينا عند الزاوية إلى شارع “دو فيوه مارشيه أوه جران”، تفادى الخنزير بعض المارة، ثم كاد يركض أمام سيارة أجرة. اندفع كاي أوفه فريجه إلى الأمام بعد الفرملة المفاجئة، ثم ارتد على مقعده. لوى وجهه. كان متأخرا وعصبيا. ماذا حدث مرة أخرى؟ في الحقيقة لم يكن متأخرا، غير أنه كان يحرص دائما في لقاءاته أن يكون هناك قبل الموعد المحدد بعشر دقائق، لاسيما في الأيام الممطرة، حتى يذهب إلى دورة المياه ويعدل هيئته بسرعة ـ الشعر المبلل بالمطر، وكذلك النظارة – قبل أن يأتي الشخص الذي تواعد معه.
صاح سائق التاكسي: ـ خنزير! هل رأيته، مسيو؟ لقد قفز أمام السيارة تقريبا!
انحنى السائق بشدة فوق عجلة القيادة، وواصل قائلا:
ـ هناك! هناك! هل تراه؟
الآن رآه كاي أوفه فريجه. مسح بظهر يده الزجاج، ركض الخنزير إلى جانب الطريق، ولمع جسده المبلل في ضوء أعمدة الإنارة بلون وردي متسخ.
ـ لقد وصلنا، مسيو! لا أستطيع الاقتراب أكثر من ذلك. غير معقول! الخنزير كاد يقفز في السيارة! كنت محظوظا، لا أستطيع أن أقول سوى ذلك!
كانت فينيا كسينوبولو تجلس في مطعم “مينيلاس” إلى المائدة الأولى بجانب النافذة الكبيرة التي تطل على الميدان. شعرت بالغضب من نفسها لأنها حضرت مبكرا عن الموعد. أن تكون جالسة في انتظاره عندما يأتي لم يكن أمرا ينم عن الثقة في نفسها. كانت عصبية، وخشيت أن تكون الشوارع مزدحمة بسبب المطر، فحسبت للطريق وقتا أطول من المعتاد. تجلس الآن أمام الكأس الثانية من “الأوزو”. يحوم الجرسون حولها كأنه دبور مزعج. راحت تحملق في الكأس آمرةً نفسها ألا تمسه. أحضر الجرسون دورق مياه آخر، ثم طبقا صغيرا به زيتون قائلا:
ـ خنزير! ـ
نعم؟
تطلعت فينيا إلى الجرسون، فلاحظت أنه يتابع المشهد في الميدان مأخوذا؛ والآن رأته: كان الخنزير يعدو في اتجاه المطعم، بخطوات سريعة مثيرة للضحك، هذه القوائم القصيرة التي تتحرك إلى الأمام وإلى الخلف تحت الجسد المستدير الثقيل. ظنت في البداية أنه كلب، أحد تلك الوحوش الضخمة المنفرة التي تعلفها الأرامل جيدا، ولكن ـ لا، إنه حقا خنزير! كأنه خارج من كتاب مصور، نظرت إلى المنخار، والأذنين، كأنهما مرسومان بخطوط واضحة، هكذا يرسم المرء الخنزير للأطفال، ولكن هذا الخنزير بدا وكأنه فرّ من كتاب رعب للأطفال. ليس خنزيرا بريا. كان الخنزير متسخا، لكنه بشكل قاطع خنزير مستأنس، وردي اللون، به شيء من الجنون، شيء ينذر بالخطر. سالت مياه الأمطار على النافذة، لاحظت فينيا كسينوبولو على نحو غائم أن الخنزير توقف فجأة أمام بعض المارة، القوائم مفرودة، تزحلق، ألقى بنفسه على جانب الطريق، ثم انحرف عن طريقه، وركض مسرعا واثق الخطوة مرة أخرى، الآن في اتجاه فندق أطلس. في تلك اللحظة غادر ريشارد أوسفيتسكي الفندق. عند خروجه من المصعد شدّ قلنسوة الجاكيت على رأسه وهو يعبر بهو الفندق، ثم خرج من الفندق إلى المطر. كان في عجلة من أمره، رغم ذلك لم يسرع كثيرا حتى لا يلفت الأنظار. كان محظوظا بالمطر: غطاء الرأس، والخطوة المسرعة، كان هذا في تلك الظروف عاديا تماما وغير لافت للانتباه. لا ينبغي أن يدلي أحد في ما بعد بأقوال على شاكلة: لقد رأيت رجلا يهرب، عمره تقريبا كذا، وطوله تقديرا كذا، ولون الجاكيت – بالطبع، يعرف اللون.. التفت في لمح البصر إلى اليمين، فسمع صيحات منفعلة، وصرخة، ولهاثا غريب الوقع. توقف هُنيهة وألقى نظرة إلى الوراء. الآن لاحظ الخنزير. لم يستطع تصديق ما رآه. خنزير يقف بين عمودين من الأعمدة الحديدية التي تحيط بالساحة المواجهة للفندق، كان يقف هناك برأس منكس، في وضع ثور على أهبة الهجوم، يثير السخرية بعض الشيء، لكنه في الوقت نفسه يُنذر بالخطر. الأمر غامض ومحير: من أين جاء هذا الخنزير؟ ولماذا يقف هناك؟ لدى ريشارد أوسفيتسكي الانطباع بأن الحياة كلها في هذا الميدان ـ على الأقل ما وقع في محيط بصره الآن ـ قد توقفت وتجمدت.