معرض "أحلام الرحلة" جديد الفنان التشكيلي محمد عبلة

في معرضه “أحلام الرحلة” المقام في قاعة سفر خان في القاهرة حتى 14 من فبراير يطالعنا الفنان محمد عبلة بمجموعة من الأعمال التصويرية التي رسمها من وحي رحلته الممتدة من مصر وحتى تخوم الهند والصين. الأعمال المعروضة هي استمرار لتجربته السابقة التي قدمها تحت عنوان “على طريق الحرير” والمستلهمة من الحكايات والأساطير والكتابات التاريخية المرتبطة بطريق التجارة القديم، أو ما اصطلح على تسميته بـ”طريق الحرير”. انتقل محمد عبلة بين المدن التي شكلت ملامح هذا الطريق متقمصا روح الرسام من عصر الحكايات تارة، وصانع ورق أو خطاط تارة أخرى، أو ربما صانع ألوان وأصباغ. كانت رحلة شائقة، رحلة اختلطت فيها الحكايات الخرافية بالحقائق، ما أفرز لنا في النهاية كل هذه الأعمال التي تمثل بلا شك واحدة من أغنى التجارب التي خاضها الفنان محمد عبلة.
يتتبع الفنان في لوحاته المعروضة ذلك الخط الواصل بين الشرق والغرب، في سرد بصري يمزج بين الحقيقة والخيال. تراوح الصور التي يعالجها عبلة بين المشاهد الطبيعية الخلابة، والمعالم التاريخية، إلى تجمعات السكان المحليين بزيهم التقليدي. في هذه الأعمال تبرز طريقة عبلة في التلوين بخامة الألوان الزيتية بما تحمله من قدرة على الإيهام بالضوء والظل. بدت الأعمال كأنها صورة خيالية مقتطعة من حلم. تنتقل الصور من مصر إلى الصين مرورا باليمن وسوريا والقدس والهند، لتقدم لنا جوهر المكان على نحو عاطفي عبر ضربات فرشاة سريعة ومتوترة.
في لوحاته تتراكم العديد من الطبقات؛ طبقات من الصور والمفردات وعجائن اللون، تقاطعات من الخطوط والعلامات والكتابات والأحرف، إشارات تاريخية وعلامات تمتزج معا لترسم جسرا خفيا يربط كل ذلك بالحاضر. وكما هو حال التاريخ الذي لا يركن إلى الثبات، لا تتوقف تلك العناصر الكثيرة التي تزدحم بها اللوحة عن الحركة. يرسم الفنان محمد عبلة كمن يسطر بيديه كل تفاصيل الحكاية قبل أن تضيع من مخيلته، خبطات الفرشاة المضطربة تصطدم بالصور المشوشة لتماثيل من الحجر، وتخدش أوراقا رمادية لأشجار باثقة من العدم.
تعبر على مساحات اللون قوافل وخيول تجوب الآفاق، ورحالة ومغامرون مجهولون، وصور لملوك وأميرات، عبيد وأحرار. تختلط الخطوط المتوترة للفرشاة بأحبار الكتابة ورقاع الكتب، تمتزج فيها أقوال الفلاسفة وحكم المتصوفة.
تتحول مساحة اللوحة إلى ساحة شاسعة تجمع كل الحقب والأزمان، وتلم شتات الحكايات والصور التي عبرت السهول والأودية لتستقر في أذهان الناس ومخيلتهم، من ألف ليلة وليلة، وأساطير مصر القديمة وحضارات الشام، إلى الملاحم الفارسية، وحكايات الهند واليونان، ورسوم المنمنمات الإسلامية. تختصر المساحة المرسومة المئات من الكتب والمؤلفات، وتترك للمتلقي براحا للخيال رغم ازدحامها بالعناصر وامتلائها بالحكايات.
تضاف هذه التجربة التصويرية الجديدة للفنان محمد عبلة إلى تجاربه السابقة، هذه التجارب المليئة بالتحولات الناعمة أحيانا والحادة في أحيان أخرى، فقد تعود متابعوه على هذا النوع من التحولات الجريئة في تجربته. هو فنان لا يهدأ ولا يستقر على حال، يمارس التصوير والرسم والغرافيك، وله علاقة وثيقة بالنحت أيضا، حتى أن له تمثالا ميدانيا من تصميمه ينتصب في قلب مدينة “فالسرودة” الألمانية.
كما أنه شغوف بالفوتوغرافيا، وانعكس شغفه بها على العديد من التجارب التصويرية التي مزج فيها بين الفوتوغرافيا والتصوير. في تجاربه السابقة انحاز الفنان محمد عبلة إلى نوع من الممارسة الفنية تتحول فيه اللوحة إلى مرآة عاكسة للمجتمع بما يتضمنه من تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية.
رصدت لوحاته الكثير من التفاصيل الكاشفة والموحية، تجولت عبر تفاصيل المدينة وشوارعها واقتربت من الناس، أو ابتعدت أحيانا لترسم لنا المدينة ككيان مهول يتمدد ويحتوي في داخله كل هذه التفاصيل. معتمدا أحيانا على الفوتوغرافيا التي ميزت أعماله لسنوات، أو مكتفيا باستخدام الأدوات التصويرية التقليدية.
لوحاته مسكونة بالحنين إلى الماضي أو مشتبكة مع الحاضر بكل تفاصيله وتعقيداته الآنية. ورغم اختلاف هذه الممارسات الفنية تظل المدينة هي قلب التجربة الإبداعية للفنان محمد عبلة، والرابط الخفي بين جميع تجاربه. وهو حين يتناول مدينة كالقاهرة على سبيل المثال يبدو كمن يكتب سيرة ذاتية لهذه المدينة التي أرهقتها السنوات.
لوحات عبلة هي انعكاس لحياته الشخصية، وانفعالاته الآنية، فحين رسم ناس القاهرة وشوارعها مؤكدا على ملامحهم وتفاصيل حياتهم اليومية كان مسكونا بهذه التفاصيل من خلال سعيه اليومي عبر شوارعها ومقاهيها، ولكن بعد انتقاله لمرسمه الجديد في وسط المدينه، بدأ يتلمس ملامح جديدة.
انتبه عبلة إلى بيوت القاهرة وتأمل من جديد تلك البنايات المتراصة إلى جوار بعضها. يرسم ويحلم ويتخيل ما يدور بداخلها، وأحوال ساكنيها. وتطور الأمر لديه شيئا فشيئا فراح ينشىء من تفاصيل هذه البنايات التي يرسمها تراكيب أخرى وتداخلات، حتى نجح في صوغ بناياته الخاصة بما تحمله هذه البنايات من تناقضات ساكنيها وأحلامهم وخيالاتهم.
العلاقة بين محمد عبلة وبين المجتمع علاقة وطيدة ومتشابكة لا تتوقف عند حدود اللوحة بل تتعداها إلى نقاط من التلاحم والارتباط، حرص هو على وجودها وتأكيدها في مناسبات عدة.
أدوات الفنان هنا لا حدود لها، من اللون التقليدي المعالج بالفرشاة والسكين، إلى الأصباغ والطباعة والفوتوغرافيا وأجهزة العرض الحديثة. أما تأثيراته فهي مزيج من الخربشات وضربات الفرشاة السريعة والمتتالية على مساحة العمل المفتوح على مصراعيه أمام كافة الإضافات.
تخرج الفنان محمد عبلة في كلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية عام 1977، ودرس النحت في سويسرا، كما درس الغرافيك في النمسا، وأسس مركزا للفنون في مدينة الفيوم جنوب القاهرة عام 2009، كما أقام أول متحف لفن الكاريكاتير في مصر. عرفت أعماله طريقها للعرض في الكثير من العواصم حول العالم. قام عبلة بتدريس الفن في السويد والنمسا قبل أن يستقر أخيرا في القاهرة كأستاذ للتصوير في الجامعة الأميركية.