الغراب لابنه: طر يا بني.. ليس لي ما أضيف

قصص أنصح كل أسرة بإعادة كتابتها مع الأطفال من بينها قصة الصرصار، عاشق الصيف الأهوج، هذا المغنواتي والعازف الكسول، الاتكالي المستهتر، تطرده النملة الرصينة المثابرة حين جاء يدق بابها في الشتاء وتلقنه درسا في جدوى العمل وأْهمية الادخار والتوفير ولزوم خلع ثوب الهزل والترفيه.
فكرة باهتة بلون دفاتر الطفولة التي عادة ما أتفحصها في الذاكرة حين يداهمني حنين بمذاق الهزيمة فأقول لنفسي رفقا بهذا الفنان الرقيق، عاشق الحياة، وهو يرثي بعزفه السنابل الصفراء قبيل الحصاد، ويشحن همم قطعان النمل الخائفة من شتاء قد لا تدركه.
ما أخف عقل قوافل النمل المتهافتة على حبات قد يلتهمها السوس في المستودعات الرطبة. أما الأبعد من ذلك كله، فهو هذا اللؤم وهذا البخل.. ما هذا الحقد الدفين لعزيزتنا النملة وهي تغلق الباب أْمام مستجير محتاج، ذنبه أنه تعلم العزف ولم يتعلم جمع القمح أو سرقته من بيادر الذين تعبوا في زرعه. من الاتكالي، الصرصار أم النملة؟
مهلا… هناك قصة أخرى تستغبينا بدورها وتضحك على عقولنا، إنها قصة الأرنب ذي الفرو الناعم والوداعة المحببة في سباقه المزعوم مع السلحفاة. هذا المسالم الهارب من بنادق الصيادين والذي خلق ليسابق النسائم… ما الذي غرر به ودفعه إلى سباق غير متكافئ مع سلحفاة باردة الدم، بطيئة تحمل بيتها على ظهرها وتمشي متثاقلة كالزمن الصعب؟
أليس من حق الأرنب أن يستمتع بالطريق ويلهو مع أقرانه، يأكل ما صادفه من خسّ وجزر ثم يأخذ قسطا من الراحة ويستمتع بحلم جميل لا يريد أن يصحو منه… ولماذا يصحو؟ ليسابق سلحفاة تلهث، ولا هم لها إلا الوصول إلى خط النهاية وقد تسقط على إثره مغشيا عليها.
أغلب الظن أن الأرنب قد أراد أن يهدي للسلحفاة فرحا كبيرا بنصر صغير، وتفرغ إلى ما هو أنفع وأبهى، مدركا أن الطريق إلى البيت أجمل من البيت وأن المرء يجب أن يركض كي لا يصل.
الغراب والثعلب، يحط الأول على غصن شجرة حاملا قطعة جبن بين منقاريه ويأتي الثعلب الماكر ليقنع الغراب بأنه يملك صوتا عذبا رخيما، يهم الأخير بالغناء فتقع قطعة الجبن، يلتقطها الثعلب و”يشمع الخيط” كما تقول العامة كناية على الفرار.
ما هذا الاستهتار بالطفل يا سيد لافونتين؟ ألا تعلم أن الغربان والثعالب لا تأكل الأجبان.. وأنت فرنسي، والفرنسيون أعلم الناس وأثقفهم في الأجبان، ثم من قال لك إن الغراب لا يعلم أنه قبيح الصوت؟ رغم أنه من أنبل الطيور كما تؤكد علوم الطبيعة.. أعتقد أن الغراب جاء ليلتقط السلحفاة في الرواية السابقة، ويوصلها إلى خط النهاية.
ليلى والذئب؛ مما لا شك فيه أن ليلى العصرية لم تعد تلك الصبية الطيبة التي “يأكل الذئب بعقلها حلاوة”، إنها أصبحت اليوم تلهو بمطاردة الذئاب في المدن والغابات، وتضحك على ذقونهم وذيولهم. لماذا تعاقب حين تخالف النصيحة وتسلك الطريق الأطول؟ أليست الطرق الأطول والمتشعبة هي التي تعلم الحياة؟ لكن الأهم من ذلك كله، لماذا يترك الذئب الصبية الحسناء ويلتهم الجدة العجوز؟
أيها الذين يكتبون للأطفال، رفقا بالقارئ الصغير، إنه لم يعد يتوسد ركبة جدته لتحكي له الحكايات على ضوء قنديل ينوس في بلدة نائية ووديعة بل إن جدته، نفسها، لم تتربّ في أحضان جدتها لنتجنب لغة الوعظ والإرشاد حتى لا يحدث لنا ما حدث للغراب الحكيم (غراب آخر هذه المرة) وإليكم الحكاية:
قال الغراب لابنه حينما اشتد عوده وأصبح قادرا على الطيران “اسمع يا بني نصيحتي الأخيرة قبل أن تغادر عش الأسرة: إذا رأيت أحدهم قادما من بعيد وانحنى إلى الأرض فانفذ بريشك لأنه سوف يلتقط حجرا ويرميك به”.
الغراب الصغير “ومن يدريك يا أبتي؟ لعله كان يخبئ حجرا في جيبه فيرديني به دون أن ينحني إلى الأرض؟”.
الغراب الأب “طر يا بني رافقتك السلامة… ليس لي ما أضيف”.