تحرير الفيلم التسجيلي

لقد حررت الوسائل الجديدة للاتصال “صانع الفيلم التسجيلي” الذي يرغب في عمل فيلم وثائقي يعكس اهتمامه بموضوع ما، من كل قيود “الصنعة” من ناحية، وقيود “الإنتاج” من ناحية أخرى.
الأربعاء 2019/02/06
صلة مباشرة بين صانع الفيلم التسجيلي وجمهوره

هل يمكن الفصل بين تطور أشكال التعبير من خلال “التسجيلي” وبين التطور الذي نشهده اليوم في ما يتعلق بوسائل الاتصال الجديدة التي أصبحت جميعها تشترك في سمة واحدة أساسية هي “الرقمنة”؟ أي بصيغة أخرى، هل يمكن اعتبار ما يحدث من تطور في طرق تجسيد الأفكار والتعبير عنها -سينمائيا- منفصلا عن تلك الوسائل الجديدة في جوهرها الأصيل ودقائقها المميزة؟

من وجهة نظري الشخصية من المستحيل عمليا الفصل بين الوسيلة والشكل، أو بين اللغة والمحيط الذي تنبع منه، وبين الإمكانية الجديدة التي أصبحت تتيح الاستفادة مما لم يكن يخطر على البال من قبل، وبين محتويات الصورة في التسجيلي، بل وفي طرق إنتاجه وتوزيعه أيضا.

لقد حررت الوسائل الجديدة للاتصال “صانع الفيلم التسجيلي” الذي يرغب في عمل فيلم وثائقي يعكس اهتمامه بموضوع ما، من كل قيود “الصنعة” من ناحية، وقيود “الإنتاج” من ناحية أخرى.

ولكن كيف؟ أصبحت الصنعة تقتضي مجرد وجود كاميرا قد تكون هي نفسها كاميرا جهاز التليفون المحمول، وجهاز كومبيوتر مجهز ببرنامج لعمل المونتاج وتركيب الصوت. وسيقوم صانع الفيلم نفسه بالبحث في مادته، وهو الذي سيكتب موضوع الفيلم ويضع خطته على الورق (شكل من أشكال السيناريو)، كما أنه هو الذي سيقوم بتركيب وتوليف مناظر الفيلم معا، وسيتحكم في إيقاعه وفي دمج صوره بما يراه مناسبا سواء الموسيقى أو أصوات خارجية يكون قد سجلها بمعزل عن التصوير.

في الوقت نفسه، لن يخضع الفيلم (الذي سيكون بالضرورة محدود الميزانية وربما بميزانية “صفر”) لجهة إنتاجية تفرض مواصفات معينة أو تضع قيودا ما، كما أن توزيع الفيلم عبر رفعه على المواقع المتخصصة على شبكة الإنترنت والتي يقبل على مشاهدتها الملايين من الشباب في العالم يوميا سواء بمقابل أو من دون مقابل، ستخلصه نهائيا من سطوة ما يعرف بـ”سوق التوزيع”.

فقد أصبحت الصلة بين صانع الفيلم التسجيلي وجمهوره، صلة مباشرة بشكل ربما بات يفرض أيضا مسؤولية ما محددة على صانع الفيلم نفسه، تتمثل أساسا في ضرورة توخي الصدق في ما يعرضه، وعدم استخدام الصورة للغش أو للترويج لأفكار قد تدفع المشاهدين إلى الاقتناع باتخاذ مواقف معادية اجتماعيا لفئة محددة أو لفرد ما، وتحول بين الناس، أي جمهور المشاهدين- المستخدمين (بلغة الكومبيوتر) وبين تكوين آرائهم الخاصة في ما يشاهدونه.

ولعل من أهم ما ستسفر عنه وسائل الاتصال الجديدة في ما يتعلق بالفيلم التسجيلي، تضاؤل أو انحسار الرقابة على المنتج التسجيلي نفسه، فهذه الوسائل ستحرر صانع الفيلم من قيوده بقدر ما تعمق الصلة بينه وبين جمهوره الذي سيصبح بإمكانه أيضا التفاعل المباشر مع ما يشاهده عبر الإنترنت وجهاز الكومبيوتر.

ولن يقتصر الأمر فقط على ما يمكن للجمهور أن يدلي به من تعليقات على ما يشاهده، وربما أيضا مطالبة صانع الفيلم بإجراء بعض التعديلات عليه، بل والتداخل معه عبر صنع وطرح صور بديلة ووثائق أخرى قد تدعم أو تناقض رؤية الصانع الأصلي.

هنا لا يصبح الجمهور مجرد طرف سلبي يتلقى ويعلق، بل يصبح دوره إيجابيا، منتجا، صانعا هو بدوره، يمكنه أن يرد على الصورة بالصورة، وعلى الفكرة بفكرة أخرى قد تطور أو تدفع إلى المراجعة، وتكون هناك “لجنة تحكيم” من جميع المشاهدين عبر العالم، هي لجنة مقيمة دائمة تستمر في المشاهدة وإصدار الأحكام لمدة 24 ساعة يوميا.

مساهمة الوسائل الجديدة في صنع التسجيلي لا شك أنها ستدفع السينمائيين الشباب من الراغبين في التعبير عما يؤرقهم ويشغلهم إلى البحث في مواضيع لم يكن من السهل على صناع التسجيلي من الأجيال الأقدم، الاقتراب منها، ولن تجعل مساحة العرض أمامهم منحصرة في قاعة السينما بشاشتها التقليدية، بل يصبح أمر التوزيع والعرض على نطاق واسع، متاحا بصورة لم يكن من الممكن تخيلها قبل عقدين من الزمان فقط.

16