تونس.. حزب الحكومة

هي الدولة مرّة أخرى، بمؤسساتها وهياكلها الرسمية، تبني أحزابا وتؤثّث لتجمعات سياسية ولتحالفات انتخابية، وكأنّ الفضاء العمومي القائم عاجز عن اقتراح الأفكار السياسية وقاصر على اجتراح التشكيلات الحزبية، وكأنّ مشهد ما بعد الثورة التونسية أضعف من التأصيل خارج جلباب الدولة العتيقة والعميقة.
منذ اجتماع قصر هلال عام 1934، الذي انبثقت عنه قصّة “الحزب القائد” وتفرعت عنه انشقاقات هيكلية، إلى اجتماع المنستير في يناير 2019، الذي عرف ولادة حزب جديد من تحت أجنحة “حزب النداء” وجلباب “الزعيم الأوحد” الحبيب بورقيبة، تعيش السردية السياسية التونسية ولادات هجينة من ذات الأصل، ما تلبث أن تنكفئ إمّا بحكم الوظيفة وإمّا بمقتضى الزمن.
فمن تجربة “حركة الديمقراطيين الاشتراكيين” التي تعتبر تجربة سياسية نقدية حيال تجربة الحزب الاشتراكي الدستوري، إلى تجربة “التجمع الدستوري الديمقراطي” بعد حدث 7 نوفمبر 1987، مرورا بولادة “نداء تونس” كحزب دستوري له روافد تجمعية ونقابية ويسارية، وليس انتهاء بحزب “تحيا تونس” الذي نشأ لا فقط من رحم الحزب الحاكم (النداء)، بل من قلب الحُكم ومن كرسي القصبة في صلب مكاسرتها ضدّ قصر قرطاج، كان الحزب الوليد يقتات من القيادة التي شاخت ويجسد صدى معاكسا لتوجهات النخبة الحاكمة، ولكنّه كان يمثّل الحزب الحاكم في الظل الذي اختار النأي قليلا عن مقاليد الدولة.
هكذا تصنع الدولة العميقة في تونس الحكومة والمعارضات، وهكذا أيضا تصنع طبقة سياسية شبه متماهية، وشبه متناهية في البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية والأمنية.
لم يجانب الكثير من المحللين السياسيين الصواب حين سموّا حزب يوسف الشاهد الجديد بـ”حزب الحكومة”، فهو حزب جاء ليعاضد حكومة قائمة وجاء ليسند طموحات رئاسية لرئيس الحكومة الحالي، ويكرّس طموحات برلمانية لطابور طويل من أعضاء الحزب الذين كانوا بالأمس يدعمون قائد السبسي، الابن والأب، قالبا وليس قلبا.
“حزب الحكومة” دليل حالة التهجين السياسي الذي نعيشه في تونس، فالأحزاب تولد لغاية خلق البديل عن منظومة الحكم وليس تكريسه، والأحزاب تنشأ من المجال العمومي ومن فضاء المعارضة، ومن ثمّة يكون الإقناع بصحة المشاريع قبل الوصول إلى السلطة. أما في الحالة التونسية فالأحزاب الجديدة تكتسب هويتها من نشاط رئيسها وأعضاء مكتبها الذين هم المسؤولون الأوائل في الدولة.
صحيح أنّ عبارة “حزب الحكومة” تصحّ في تفسير جزء من المشهد السياسي الراهن، ولكن الأصح أيضا أننا حيال “حكومة الحزب”، فمعظم وزراء حكومة الشاهد ينتمون إلى حزب الشاهد، وغالبيتهم أيضا يؤمّنون الدعاية له والدعاية المضادة ضد خصومه الألداء من خلال موقعهم في القصبة.
المشهد السياسي التونسي يعيش مفارقة حزبية بالإمكان أن نسمّيها “أحزاب القصبة” -مقر رئاسة الحكومة- فمعظم التكتلات السياسية الحديثة تنشأ من خلال توق أصحابها للعودة إلى كرسي القصبة وتملّك السلطة والنفوذ من جديد، ليصير العمل الحزبي مجرّد “ترانزيت” بين المسؤولية الإدارية والحقيبة الوزارية.
هكذا تذهب الدولة ضحيّة التوظيف السياسي والانتخابي الضيّق، وهكذا أيضا يضيع المعنى الحقيقي للعمل الحزبي كفضاء لاجتراح الأفكار الكبرى وتطارح البديل وكإطار للتثقيف ودمقرطة العمل المدني.
المفارقة الأخرى أنّ جلّ من سيتنافسون اليوم على الانتخابات البرلمانية والرئاسية من الرؤساء السابقين ورؤساء الحكومة الأسبقين، كلهم يتمثلون الانتخابات القادمة لا كإطار لتقديم المشاريع الجديدة، وإنما كفرصة لتجديد الثقة في شخصياتهم أو بعبارة أدقّ كولاية ثانية للعهدة الرئاسية.
هكذا يتصرّف حمادي الجبالي الذي يجوب البلاد ويقدّم مقارنة هزيلة بين ولايته وولاية خلفه، وعلى نفس الوتيرة يقدّم المهدي جمعة جرد حساب لولايته في القصبة ولباقي الحكومات التي جاءت من بعده، وهكذا أيضا يتصرّف المنصف المرزوقي وبنفس المسلكية تصرّف من قبله الباجي قائد السبسي.
نحن حيال مشهد سياسي قوامه أحزاب في السلطة توظّف مؤسسات الدولة لتحصيل مكاسب انتخابية، وأحزاب وظيفيّة لا تسمع صوتها إلا قبل الاستحقاق الانتخابي، مدار عملها استدرار ولاية ثانية لشخصيات سياسية فاشلة في استحقاق الحكم والمعارضة معا.