"تعويذة" بول سيروزييه لا تزال تلهم أجيالا من الانطباعيين الجدد

لوحة الفنان بول سيروزييه تشكل منذ إنجازها تحولا حاسما في طريقة استخدام الألوان.
الاثنين 2019/01/28
لوحة "التعويذة" عرفت أيضا باسم "الآفن في غابة الحب"

أهم ما يحتفظ به متحف أورسي بباريس، هذه اللوحة التي رسمها بول سيروزييه منذ أكثر من قرن، وشكلت منذ إنجازها تحولا حاسما في طريقة استخدام الألوان، هي محور معرض قام للوحة وصاحبها ومجموعة من الفنانين الذين التفوا حوله.

“التعويذة” لوحة زيتية صغيرة الحجم (27 سم x 22 سم) رسمها بول سيروزييه (1864-1927) على الخشب ببلدة بونتافين في مقاطعة بريطانيا، وكان عمره آنذاك 24 سنة.

الطريف أن هذه اللوحة التي مثلت راية مجموعة جديدة تشكلت حوله، أنجزها الفنان الشاب تحت إشراف بول غوغان، وكانا قد اعتادا قضاء العطل في تلك البلدة حتى عام 1891، تاريخ رحيل غوغان إلى تاهيتي.

وكانت تلك الفترة غنية بالإنتاجات الانطباعية وما بعد الانطباعية، لفنانين مغامرين أمثال فان غوخ وغوغان وسيزان، وقد اتسمت ببحث جاد في الألوان أشرف عليه الكيميائي ميشيل أوجين شوفروي، مدير مصنع غوبلان للأنسجة، تبعته دراسات في تشكيل تناسق بين الألوان الأولية والألوان المكملة، مهدت لظهور التوحشية.

في خريف 1888 شجع غوغان الفتى سيروزييه على التخلص من تقليد السابقين، واستعمال ألوان صافية، حية، مثلما حثه على إعطاء لوحاته منطقها الرمزي والزخرفي الخاص.

ولما عاد إلى باريس، كان يحمل معه لوحة صغيرة رسمها على ضوء نصائح غوغان، وقدّمها لأصحابه الذين كانوا يشاطرونه الرغبة في الانعتاق من الرسم الأكاديمي والبحث عن أساليب فنية غير مسبوقة، أمثال بيير بونار، وموريس دوني، وهنري غابريال إيبيل، وبول إيلي رانسون، والذين سيشكلون لاحقا حركة عرفت بـ”الأنبياء”.

اتفق الجميع على إطلاق اسم “التعويذة” على تلك اللوحة، وصاروا يلتقون في مرسم بول رانسون بمونبرناس للحديث عن نظريات الفن والرمزية والباطنية والإخفائية (أي الإيمان بالقوى الخفية وبإمكان إخضاعها للسيطرة البشرية)، قبل أن ينفرط عقد المجموعة برحيل غوغان.

وعرفت تلك اللوحة أيضا باسم “الآفن في غابة الحب”، إذ يظهر على صفحتها واد ساحلي، وكأننا على جسر أو مركب مع نظرة من عل نحو الماء والضفة وكل عناصر الديكور الموجودة على حافة الوادي، فهي تحتوي على عدة عناصر كالخشب في أعلى اليسار، والثنية العابرة، وصف من شجر الزان على حافة الوادي، والطاحونة في العمق على يمين اللوحة، كل عنصر من تلك العناصر له مهمة لونية، إن جاز التعبير.

نبوءة اللون
نبوءة اللون

ويروي موريس دوني في مذكراته أن بول غوغان قال لسيروزييه ما يلي “كيف ترى هذه الأشجار؟ صفراء! فلتضع الأصفر إذن. ذلك الظل، يبدو لك أزرق، فلتدهنه باللازوري الصافي! وتلك الأوراق، هل هي حمراء؟ ضع لون الزّنْجفر إذن!”.

الانطباعيون، برغم حرصهم على تمييز الحس البصري، لم يهجروا وهْمَ المردود الطبيعي، أما هنا، فإن البحث عن معادل مزدان قد حل محل المحاكاة، يقول موريس دوني إنه ألفى نفسه، وكذلك رفاقه، حرا من كل معوقات التقليد الإيمائي التي تقف أمام غريزة الفنان، ولسوف ينظر إلى تلك اللوحة لاحقا كمانيفستو فن صاف ومستقل وتجريدي، يتمثل قول سيروزييه

إن اللوحة، قبل أن تكون جواد معركة، أو امرأة عارية، أو أي شيء آخر، هي بالأساس صفحة مسطحة مغطاة بألوان يتم تجميعها وفق نظام ما. وهو ما أكده عام 1921 في كتاب “أبجدية الفن التشكيلي”، إذ كتب يقول “الطبيعة هي جملة الأشياء التي تكشف عنها حواسّنا.. إذا كان فن الرسام يتلخص في تقليد الصور التي يراها وينقلها إلى شاشة، فإنه لا يقوم سوى بفعل ميكانيكي، لا تسهم فيه أي ملكة من ملكات الإنسان العليا، وسوف يكون ذلك انطباعا لا يضيف شيئا، وعملا خاليا من الذكاء. إن فهم الطبيعة على هذا النحو ليس بالفن”.

فكيف استطاع ذلك الرسم الزيتي، الذي رُسم بسرعة وعفوية على غطاء من خشب صندوق يضم مواد دهن، أن يلفت الانتباه، ويشكل نقطة فارقة في تاريخ الفن الفرنسي، وحتى العالمي؟

أولا، لأنه مثل طريقة جديدة في الرسم، وتأوّلا للطبيعة آمن صاحبه بأن الرسم، بخلاف التصوير الشمسي، لا ينقل الواقع، فالتعويذة تتبدى في شكل متعدد اللمسات، تنبسط فيه الألوان وفق خط معوج يمثل الضفة، تلك اللمسات اللونية تلتصق جنبا إلى جنب لتخلق إما ورق الأشجار (أصفر في أعلى اليسار، أو أخضر في أعلى اليمين، وحتى داكن في منتهى اليمين)، وإما النباتات بالأحمر أو الأخضر أو الأبيض، وإما البيت بدرجتين من اللون الأزرق، علاوة على خطوط عمودية بالأزرق الفاتح تمثل جذوع الشجر.

وكل تلك الألوان تنعكس على صفحة وادي الآفن، فتُرجرج اللوحة، وتقسهما نصفين: اليابسة والماء. وقد عُدّت اللوحة عملا انتقاليا، أعلاه تصويري، وأسفله تجريدي. أما السبب الثاني، فلأنه عبر عن ريح التغيير التي عصفت بثوابت تلك المرحلة.

ورغم أن البحوث التي أجراها سيروزييه من بعد لم تف بوعود “تعويذته”، دخل ذلك العمل التاريخ لفرادته، وقد قدمه متحف أورسي الباريسي كتنبؤ بما ينبغي أن يكون عليه اللون، وأثر هام التقت حوله نحو ستين لوحة لغوغان، وإميل برنار، وموريس دوني، وإدوار فوييار حتى موفى أبريل القادم.

16