ثقافة الهديّة

قيل -والعهدة على الراوي- إنّه حين كانت طائرة أحد مشاهير الأثرياء في الشرق الأقصى، تحلّق فوق جزر آسيا، نظرت صديقته الأوروبية الشقراء إلى جانبه من الشباك فسحرها منظر جزيرة خضراء على شكل سمكة. أيقظته من نومه ودعته للتمتّع بروعة ما شاهدت… ألقى نظرة سريعة وقال لها “إنّي أهديتك إياها” ثمّ عاد يغطّ في نوم عميق.
لم تصدّق الفتاة الحسناء ما قاله وليّ نعمتها حتى جاءها عقد ملكية الجزيرة مع القهوة في صباح اليوم التالي جليّا ومصدّقا لا لبس فيه.
نعم، لقد أهداها جزيرة بجميع سكانها من الكائنات الحية على جميع أنواعها.
قال صديقي معلّقا على الحادثة “هكذا تكون الهدايا، يا من لا يهدى إليه -وفي أقصى الحالات- سوى قلم أو باقة ورد أو ساعة يد… ما جدوى النظر في الوقت دون مواعيد مهمّة مع أشخاص مهمين”.
نفس الصديق هو الذي اتصل بي يوم ذكرى ميلادي قائلا “أهديك هذا الصباح الجميل وهذه السماء الزرقاء.. كل عام وأنت هكذا”. شرد ذهني بعيدا متأمّلا في تاريخ الهدايا وفلسفتها، مقاماتها وأغراضها، وكذلك قيمها العينيّة والرمزيّة على حد سواء.
سبق أن حضرت في بعض العواصم الأوروبية معارض للهدايا المتبادلة بين الملوك والأمراء والدوقات والنبلاء فلم تقع عيناي على أيّ هديّة تكتفي بالقيمة الرمزيّة وحدها. كانت كلّها مصنوعة من أثمن المعادن ومرصّعة بأنفس الأحجار… لا تسل عن النوايا فلقد اختفت مع أصحابها وكتمت سرّها هذه المعروضات الصامتة خلف الواجهات المحروسة بعناية فائقة وحراسة مشددة.
تذكّرت أشهر هدايا التاريخ من تلك التي خلدت أصحابها. استعدت ما قرأته عن قافلة الهدايا التي بعث بها أحد حكام بلاد فارس إلى بيت الفردوسي صاحب ملحمة “الشاهنامة” التي تروي التاريخ الفارسي، كشكل من أشكال الاعتذار بعد الإهانة، ولكن هيهات، فلقد مات الفردوسي الذي كان كفيفا قبل أن تكحّل ناظره تلك الهدايا التي ثقل حملها وغلا ثمنها.
تذكّرت أعجوبة “تاج محل” التي محت الفارق بين القصور والقبور، واعتبرت ذلك الضريح الذي يمثل تحفة معمارية، أثمن ما يمكن أن يقدّمه زوج إلى زوجته وإن كانت جثة هامدة.
نعم، هكذا يُهدى الأموات أيضا بغير طلب الرحمة والغفران.. الصراحة أنّي قد وجدت بيت الشاعر جرير في رثاء زوجته، ما يضاهي “تاج محل” شموخا واعترافا، وذلك في قوله أمام قبر زوجته “لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يُزار”.
توقّفت عند سير المشاهير من قادة المماليك وحتى القيان من الجواري العازفات والمغنيات، وكيف كانوا يباعون ويشترون في أسواق النخاسة ثمّ يقع تبادلهنّ كهدايا نفيسة.
عاملات المنازل بدورهن يقع اقتناؤهن كهدايا. لنتخيلهن في رسم كاريكاتيري موجع، كيف يتم لفهن في الأوراق البرّاقة المخصّصة للهدايا مع شريط أحمر، ثمّ يتمّ الكشف عنهن أمام صاحبة المناسبة وضيوفها في حفل صاخب، فتعلّق بقولها “ميرسي حبيبي.. إن شاء الله تعيش وتهدي”.
جالت في خاطري الهدايا المسمومة والملغومة والصاعقة عبر التاريخ، من رأس المملوك جابر في “ألف ليلة وليلة” وصولا إلى أزمنة الطرود البريدية المفخّخة في عصرنا.
وتبقى أجمل الهدايا هي تلك التي لا يتوقعها مستقبلوها، يفتحونها بلهفة وأصابع مرتجفة وقد ميزتها روح الارتجال وحس الغرابة والطرافة، ذلك أنها قد اقتنيت بحب يتخطى مجرد الواجب الوظيفي.
الهديّة قديمة قدم التعارف والتوادد والمصالح أيضا. قبل بها الأنبياء لأنها تمدّ جسور المحبّة والفرح، وجعلها الحكام عرفا دبلوماسيا. مارستها كل ثقافات الشعوب لأنها تعني تذكّر الأحبّة في حالات البعد والسفر، لذلك وجدت أكشاك التذكارات والهدايا الرمزيّة في المطارات والمحطّات.
أمّا في عالمنا العربي فأغلب الناس ينظرون إلى قيمتها العينيّة لا الرمزيّة. هناك أناس لا يرضون ببطاقة بريديّة أو علاّقة مفاتيح أو قدّاحة رخيصة.. إنهم يربطون قيمة الهديّة بمهديها وكأنّهم يقرّون ضمنيّا بأنّ قيمتهم الفعليّة تتمثّل في قطعة ذهب أو حجر ألماس أو زجاجة عطر فاخرة.
ما زال كثيرون منا يستهترون بالجانب الرمزي للهدية مبررا ذلك بالمثل الشعبي القائل “أكثر مما رخص ثمنه لأن الخل المجاني أطيب مذاقا لدى بعضهم من العسل مدفوع الثمن”.
ما زال أغلب الناس ينتظرون، مثلا، تذكرة حضور عرض من صديقه المسرحي أو السينمائي، ويطمع في نسخة مجانية من صديقه الكاتب حتى وإن أهدى له الأخير عمله الأدبي بكامله على الصفحة الأولى من كتابه المطبوع.
متاهة الهدايا لا تنتهي، تختلف وتتعدد الصيغ والأساليب والهدايا من أغنية تأتيك ذات صباح عبر موجات الأثير الإذاعي كما كان يحدث بغزارة في الزمن الجميل، مرورا بمقتنيات بسيطة يبررها صاحبها بأغنية ناظم الغزالي “أي شيء في العيد أهدي إليك وكل شيء لديك”، ووصولا إلى فكرة منح مبلغ من النقود وإعطاء المهدى إليه حرية اختيار الهدية.. مع نية التفريق المسبق بين الهدية والهبة والمساعدة والصدقة أو حتى “الرشوة” والعياذ بالله. المهم أن تتوازى وتتساوى الأيادي في تبادل الهدايا وألا تكون هناك أفضلية بين “يد عليا” و”يد سفلى”.