السفر الثقافي

السفر الثقافي هو كيفية رؤية الآخر برؤيا غير متوقعة لمعطيات هامشية أو جانبية أو ثانوية لتشكّل المشهد الأكثر حميمية وصلة روحية بالسفر لتُضاف فائدة أخرى في مثل هذا السفر الذي يفتح البصائر قبل الأبصار.
الخميس 2019/01/10
هناك سفر ثقافي يمر عبر السفر السياحي ولا يتوقف عند حد (لوحة: ريم يسوف)

في الكتابات القديمة تُذكَر سبع فوائد للسفر أو عشرٌ في بعض الأحيان وكلها لا تتعدى المتعة الشخصية والترويح وتغيير الأجواء النفسية والاطلاع العام على عادات وتقاليد الشعوب واكتساب المعرفة وما إلى ذلك من فوائد عرفها الإنسان القديم وتبنّاها في عملية تقليدية مرّت عليها عقودٌ من الزمن طويلة.

والأمر كذلك حتى مع العصور الحديثة، غير أنّ آليات السفر اختلفت ووسائل النقل تعددت، كما أنّ أهداف السفر تغيرت مع الزمن مثلما الزمن غيّر الاتجاهات وبوصلات السفر شرقا وغربا، وباتت الغايات لا تتشابه في سرعة الحياة ومفاجآتها الكثيرة في التقنيات الإلكترونية التي تسارع وتساعد في السفر إلى كل مكان. لهذا فمثل هذه الهواية العالمية إنسانية بطبيعتها أولا وثقافية في وجه من وجوهها ثانيا، والثقافة هنا ليست هي الترويح عن النفس حسب واكتساب المتعة المجردة وتغيير المكان في زمن يكاد يكون ثابتا، فهذا من أولويات السفر وثوابته، لكن المغزى آخر في رؤية الآخر وكيفية النفاذ إليه تاريخيا ونفسيا عبر بوّابته الوطنية بكل ما فيها من تراث أخير بقي يصارع عمارة الحداثة، وما بقي فيها من ملامح وجذور لمّا تزل شاخصة ليس كأثر إنما كبناء روحي ونفسي تقليدي لم ينهزم كثيرا أمام نوافذ الرياح الكثيرة والكبيرة في رحلة الزمن الطويلة.

أعني من كل هذا أن هناك سفرا ثقافيا يمر عبر السفر السياحي ولا يتوقف عند حد، والأمر لا يحتاج الى حصافة كبيرة وتحضير مسبق بقدر ما هو رغبة في اكتشاف شيء من جزئيات الآخر ومن زوايا متعددة يمكن رصدها بسهولة أو صعوبة، لا سيما إذا كان المسافر ذا نزعة ثقافية وأدبية وفنية لا تعنيه المتعة الشخصية كثيرا ولا الترويح لذاته في الاسترخاء والتأمل الطبيعي في ملاحظة الاختلافات الشكلية أو الجوهرية في هذا المكان أو ذلك، بقدر ما تكون تاريخية المكان هي الحافز الأساسي في استغوار الحياة فيه وقراءة حفرياته المتعددة، ليس في ما تبقى من آثار وتحفيات وتراث مصنّع، فهذا تحصيلٌ حاصلٌ، إنما من معطيات مختلفة في اللغة واللهجة والثياب والطعام والأسواق اليومية والمقاهي والعلاقات الاجتماعية والمعرفة الفطرية والنبوءات الشفاهية والحدس الشخصي والحوار الطبيعي بلا كُلفة أو قصدية والأماكن الأكثر ارتيادا والشواخص الجاذبة قديمها وحديثها الذي له علاقة سيكولوجية بالمكان وطبيعة الناس الفطرية الذين يرون فيه ماضيا بحكايات أو مواقف أو ذكريات وكيف تمّ تأمينها إلى هذا العصر.

لذلك فالأديب أو الفنان أو الجمالي بشكل عام تثيره هذه الملامح أكثر مما تثيره حداثة الحياة بآفاقها المستحدثة وصناعاتها فائقة الجودة سواء في العمران أو تقنيات الحياة اليومية في أشكالها المتعددة، عندها نرى المسافرين الثقافيين يلجأون إلى مناطق معينة من دون غيرها في الدول التي تتميز بحضارات قديمة، فما بقي من أثرٍ فيها يجدونه في المدينة على النحو الذي أشرنا إليه، في الطعام والثياب والعلاقات والمقاهي الشعبية والمساجد الأثرية والشيوخ والعجائز والأسواق ذات الصلة بالقديم ومآثره البسيطة بغض النظر عن اقتحام الحياة المدينة المعقدة لها، وأعتقد أن كثيرا من الكتّاب شعراء وروائيين يضيفون خصلة جديدة لفوائد السفر حينما يتملّون هذه الحياة من داخلها وليس من خارجها، فالمتعة أن نتقصى الماضي منها ونتقصّى حكاياته ونتتبع خيوطه المتبقية التي تجاهد لأن تبقى في الحياة العصرية المتطورة كثيرا.

نعتقد أنّ السفر الثقافي ليس هو المتاحف والمكتبات والندوات والأمسيات الشعرية والجولات البحرية والديسكوات الساخنة والمشروبات الروحية، إنما هو كيفية رؤية الآخر برؤيا غير متوقعة لمعطيات هامشية أو جانبية أو ثانوية لتشكّل المشهد الأكثر حميمية وصلة روحية بالسفر لتُضاف فائدة أخرى في مثل هذا السفر الذي يفتح البصائر قبل الأبصار.

14