نادي اليائسين في مصر يتفادى التفاؤل

مفارقة مصرية طرفاها جيلان على النقيض. الأكبر دعا إلى التغيير، وآمن بنجاح الثورة، ويراهن على الزمن، مستندا إلى ارتفاع منسوب الوعي بالحريات، وأن يثمر التراكم الكيفي الرافض تغييرا كميّا ينهي هذا المنحنى النابليوني العصيب. هذا الجيل يقترب من سن السبعين أو تخطاها، ويواصل احتراف الأمل، على العكس من جيل يعاني أعراض أزمة منتصف العمر الطبيعي والثوري، وكان أغلب هؤلاء قد تجاوزوا الأربعين بقليل حين صحوا على فجر 25 يناير 2011، فأدركتهم الثورة واكتسبوا طرفا من شعاراتها وخطابها العام، وبصعود الثورة المضادة احترفوا التشاؤم، وتقصّوْا عثرات وإحباطات وأخطاء تثبت جدارتهم بعضوية قافلة لا ترى في مصر شيئا يدعو إلى التفاؤل. أما أبناء الجيل الأصغر، وهم شبان تزامنت مراهقتهم مع أحلام الثورة، فلا خوف عليهم ولا هم يتشاءمون.
ظاهريا، فإن كل شيء تقريبا في المشهد المصري يدعو إلى اليأس، وما كان حلما أُريقت من أجله دماء وأعمار استحال كابوسا. توقف قطار الثورة، وأعطبت القاطرة، واقتلعت القضبان. وفوق ذلك كله تمت شيطنة الثورة قولا عبر الإعلام الحكومي، وفعلا بإذلال عمومي عبر استهداف عنوان الثورة: الخبز والحرية؛ لكي لا يتهور الشعب مرة أخرى، فيجترئ على الحلم بتغيير لن تكون نتيجته إلا الحرمان من الحسنيين: الحريات والأرزاق.
نحن شعب يقدّس الخبز، ويتفنن في صنعه، وتضم “موسوعة الخبز” نحو ثلاثين نوعا، باختلاف البيئة والمواد المضافة إلى الطحين. ولا يحظى منتج نباتي أو حيواني بمنزلة الخبز، فهو وحده يحمل صفة “نعمة ربنا”، ومن يلتقط لقمة الخبز من الطرقات يقبّلها، كما يقبّل المصحف ووريقاته إذا عثر عليها في الطريق. وربما يكون المصريون الشعب الوحيد الذي يطلق صفة “العيش” على ثمرة نباتية اسمها الخبز، ويستثني “العيش” من قائمة الأشياء، فيقسم به قسما يلاحق من يخونه بصفات مخلّة بالشرف. ويجعل المصريون “العيش” عنوانا لأفلام سينمائية، واسما لجماعة “الخبز والحرية” التي أسسها في القاهرة مثقفون وفنانون متمردون، في يوليو 1941.
مقايضة السلطة الماكرة دائما تكون على الخبز بالتنازل عن الحرية، والآن يوضع الخبز والحرية، للمرة الأولى، في سلة واحدة في مقابل الأمن. ولا يكف الخطاب السياسي عن معايرة الشعب بمنحه الأمن، من دون ذكر الثمن الباهظ المدفوع في مقايضة غير آدمية بعد ثورة أرادت تحقيق العدالة الاجتماعية والعدالة السياسية، فخسرنا الاثنين.
ومن خلال أصابع القبضة البوليسية أفلت جرس إنذار، في 7 مارس 2017، دعا مواطنين في أكثر من محافظة إلى التظاهر، من غير اتفاق، اعتراضا على تخفيض حصة الفرد من أرغفة الخبر. إشارة ذكية من شعب يعلن أن للصبر حدودا.
الانتقام “النابليوني” من ثورة 25 يناير 2011 لا يخلو من مخاطرة. وفي التاريخ تجري نظرية معاوية بإرخاء الشعرة، فينعم الشعب بحريات يدفع ثمنها من طعامه ويحتمل قسوة المعيشة، أو أن تتولى الدولة تأمين الحياة الاقتصادية مدفوعة الثمن من الحريات العامة. ولكن ما ترتب على 30 يونيو 2013 مقامرة بالخبز والحرية، ويرافق هذا الجوع إلى العدل خذلان نفسي بإذلال الشعب بأنه أفضل حالا من سوريا والصومال.
وأسوأ ما أفرزته الثورة المضادة هو زيادة أعضاء نادي اليائسين من التغيير، فلا يكتفون بالعيش في يأسهم، وإنما يستهويهم تصدير اليأس إلى متفائلين يؤمنون بأنه لا نهاية للتاريخ، وأن الشعوب تمر بمنحنيات أكثر قسوة، ثم تتجاوزها.
وقارئ التاريخ يرى أهوالا، ويتعجب من قدرة الشعوب على اجتياز تلك الاختبارات، وليست الثورات ضوءا ينطلق من منبع إلى هدف، في استقامة لا تعرف الاعوجاج والإبطاء المرحلي، ولكنه صراع إرادات وحصاد تفاعلات في موازين القوى الداخلية والخارجية.
قلت إن ظاهر المشهد الحالي يسوّغ اليأس، ولكن في الاستسلام لليأس شيئا من المازوشية. وبعض اليائسين تسرّهم كوارث تودي بأرواح مصريين وتقطع أرزاق الغلابة؛ شماتة بعبدالفتاح السيسي الذي تطيل عمرَه المصائب. ومن أراد أن ييأس فمن حقه أن ينعم باختياره، وأما الحماس لتصدير اليأس فهو مرض سادي يحتاج إلى علاج نفسي.
ولا يشفع لمحترفي تصدير اليأس من ضحايا أزمة منتصف العمر أن يطالعوا دجلا يوميا مدفوع الأجر والمناصب والعطايا.
هذا الحصاد الدعائي وفير ولا يخدع الناس، ويسخرون منه انتظارا للحظة نُضج تسمح بأقل قدر من الخسائر، فهل يصدق مواطن، غير مطمئن إلى قوت يومه ودفء نومه، قول شيخ بلغ الرابعة والثمانين وشبع أياما ومناصب، “من حق الرئيس عبدالفتاح السيسي أن يُباهي العالم أجمع بهذا القدر الهائل غير المسبوق من الإنجازات التي تحققت على مدى السنوات الأربع الماضية، ومن حق المصريين أن يفتخروا بهذا العمل المدهش الذي يكاد يكون مُعجزة نراها ونتابعها كل يوم على أرض الواقع، من حقهم أن يفاخروا بهذا الإنجاز المهول لأنه جاء نتيجة كدّهم وعرقهم ليؤكد لكل العالم أن المصريين قادرون على صنع المعجزات في ظل قيادة وطنية شجاعة مُصممة على إعادة بناء مصر من جديد مهما يكن واقعها الراهن. أنجز المصريون خلال 4 سنوات 8 آلاف مشروع بقيمة تريليون و600 بليون جنيه”. هذا ما صدّر به مكرم محمد أحمد مقاله في الأهرام، 18 ديسمبر 2018، بعنوان “إنجاز يستحق الفخار”. ولا أتصور قارئا سيكمل قراءة مقال بدأ بهذه الطرفة من دون أن يتوقع صرخة طفل يسأل: أين ثياب الملك؟
التغيير قادم، وسيفاجئ اليائسين قبل المرعوبين من آثار 25 يناير 2011 في تطوير وعي الشباب الحالم بالحرية.
ومن فتح قوسا لبدء جملة، يعلم أن عليه وضع القوس الثانية بعد اكتمال المعنى. ولم تكتمل جملة الثورة، وكل عوامل اليأس والتيئيس تقرّب الوصول إلى النهاية. من يلقي نظرة على الخارطة سيتعبه إحصاء ما تعرضت له مدينة مثل بغداد طوال تاريخها، وكيف تنهض من رماد المعارك. كما شهدت مصر أطول احتلال متصل في التاريخ، وسيتأكد لمصدّري اليأس أن السيسي نفسه فاصلة بين جملتين، في سطر يزدحم بالتفاصيل.