حركة النهضة.. خلفيات الاستدارة نحو دمشق

حركة النهضة اختارت الاستدارة عن موقفها السابق نحو دمشق، عبر بلاغ سياسي يبلغ المضامين بلغة المقتضى والمسلم به، لا بالمنطق المباشر والجلي، وهي في هذا المفصل تراود قواعدها وتحضرهم لخطوات سياسية جديدة.
الاثنين 2019/01/07
استدارة في الموقف من المشهد السوري

على عادة بياناتها السياسية، أخفت حركة النهضة التونسية بيت قصيد أفكارها في الأسطر الأخيرة لبلاغاتها، وبلغة سياسية تُضمر أكثر مما تُظهر أعلنت عن استدارة في الموقف من المشهد السوري حتى وإن تمّ تغليف هذا التغيير بمنطق المصالحة الوطنية الشاملة.

في استقراء للسطر الوحيد لبيان المكتب التنفيذي لحركة النهضة، نلاحظ ثلاث أفكار رئيسية.

الفكرة الأولى تقوم على الإقرار بالنظام السوري كقوة غالبة ووازنة وأساسية في المشهد الشامي. والثانية هي التسليم بأن لا حل في سوريا إلا بمصالحة شاملة تكون الدولة السورية أبرز مكوناتها. والفكرة الثالثة هي الاعتراف بأحقية دمشق في مقعدها ضمن المنتظم العربي والدولي.

أن يصدر هذا “السطر” عن حركة إسلامية كانت على الطرف النقيض المباشر من حكم بشار الأسد، وكانت لا ترى غضاضة أصلا في استخدام الفصل السابع ضد دمشق وسحب النموذج الليبي على الجغرافيا السورية، ولم تعارض التفجيرات الانتحارية التي ضربت المدن السورية ولم يسمع لها صوت معارض قوي عند استباحة تنظيم داعش لأرض الأمويين، وعند استهداف المقاتلات الإسرائيلية للمواقع المدنية السورية، يستدعي توقفا وتمعّنا للتفسير والتحليل.

صحيح أن حركة النهضة ربطت بشكل شرطي عودة سوريا إلى المنتظمات العربية والدولية بمقدّمة المصالحة الوطنية الشاملة، ولكن المتابع المدقق في  مسار قطار التسويات يعرف أن الميدان العسكري كان يؤثر على توازنات المفاوضات وغلبة وجهات النظر السياسية وليس العكس، وطالما أن الطرف الرسمي حسم تقريبا فضاء الخنادق والبنادق، فهو الذي سيرسم مسار المصالحة في البلاد وهو الذي سيكتب تاريخها أو السردية الكبرى منها على الأقل.

بمعنى أدقّ، اختارت حركة النهضة الاستدارة عن موقفها السابق نحو دمشق، عبر بلاغ سياسي يبلغ المضامين بلغة المقتضى والمسلّم به، لا بالمنطق المباشر والجلي، وهي في هذا المفصل تراود قواعدها وتحضرهم لخطوات سياسية جديدة نحو الإقرار بـ“حكم الواقع”.

والحقيقة التي لا بد من الإشارة إليها، هي أن حركة النهضة بدأت منذ فترة قريبة بالنزول من أعلى شجرة التعنت والتصلب زمن حكم “الترويكا” حيال سوريا، ولعل المسافة النقدية التي اعتمدتها قيادات من النهضة من الرئيس السابق المنصف المرزوقي عبر التأكيد بأنّ رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية تفاجأت بقرار قطع العلاقات مع دمشق، وأنّ احتضان تونس لمؤتمر أصدقاء سوريا كان “وليد أفكاره”، كانت- أي المسافة النقدية- الخطوات الأولى للاستدارة السياسية التي عبرت عنها النهضة في بيانها الأخير.

والسؤال المركزي هو لماذا الآن؟ وما هي الحسابات السياسية الوازنة والمؤثرة في عملية إصدار هذا القرار، هل هي الحسابات السياسية الضيقة للحركة، أم حسابات الدولة الوطنية التي قد تفرض اليوم أكثر من أي وقت سابق استباقا نحو تحصيل المكاسب وتجسير الهوة الدبلوماسية العميقة مع دمشق؟

صراحة من الصعب إلغاء أي فرضية من التحليل، فحركة النهضة لا تريد أن تصوّرَ لدى الرأي العام المحلي والإقليمي بأنها ترفع الفيتو ضد استئناف العلاقات مع دمشق، سيما وأن تونس تستعد لاحتضان القمة العربية، وأن الجزائر تضغط عبر قنواتها الدبلوماسية والسياسية لتكون قمة تونس بوابة عودة سوريا إلى الحضن العربي، ونستبعد، صراحة، أن ترفع النهضة الفيتو ضدّ الطلب الجزائريّ خاصة وأن المنـاخ الإقليمي بات جاهزا لهذه العودة.

غير أن الخلفيات الأساسيّة والمركزية في تقديرنا، تتجاوز البعد الإقليمي وتنغرس في صلب الاستحقاقات المحلية ونعني بالضبط الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر إجراؤها نهاية العام 2019.

هنا تريد حركة النهضة عبر موقفها من دمشق، التخلص من اتهام خصومها لها بمواصلة قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة عربية شقيقة، أو تحويل هذا المطلب إلى شعار انتخابي يُحرج النهضة أمام قواعدها أو أمام حلفائها في الداخل والخارج.

كان لشعار إعادة العلاقات مع سوريا، وزن انتخابي في استحقاق العام 2014، فالحركات العروبية اختارت الانحياز النسبيّ للرئيس الباجي قائد السبسي بدل المنصف المرزوقي في الانتخابات الرئاسية، وفضلت بشكل حذر نداء تونس عن حركة النهضة في الانتخابات البرلمانية.

كان لمطلب استئناف العلاقات التونسية السورية أثر وآثار. الأثر الانتخابي كان في استدرار أصوات الرافضين للمسلكية الدبلوماسية للمرزوقي في عمقها العربي، أما الآثار فكانت بمثابة الإسمنت السياسي الرابط بين مكونات جبهة الإنقاذ صيف 2013 وشتاء 2014.

اليوم تريد النهضة الاستثمار في هذه الورقة، فهي تسعى إلى سحبها من أيادي معارضيها من اليساريين والعروبيين بشكل عام، ومن نداء تونس بالأخصّ، ولم لا التأصيل لتقارب أكثر متانة مع حزب مشروع تونس الذي دعا في أكثر من بيان سياسي إلى إعادة العلاقات مع سوريا وتوجه عدد من نوابه في البرلمان إلى دمشق بعد معركة حلب.

تُدرك حركة النهضة أن الشُقة الماثلة بين الإخوان المسلمين، ككل، ودمشق، كبيرة ويصعب جسرها في المدى القصير والمتوسط على الأقل، كما تعرف أنّ جزءا من التقارب الإماراتي المصري السوري الحاصل اليوم مبني على التناقض مع الإسلاميين ومع سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الشمال السوري، وطالما أنّ استدارتها غير قابلة للصرف والاستثمار في الخارج، فهي تريد بكل الأحوال تجييرها وتوظيفها في السوق المحلية وفي الاستحقاقات القائمة والقادمة.

8