التراث الجزراوي يوحّد الهوية السورية موسيقيا

عبر عصور طويلة، تمتد زمنيا للآلاف من السنين، عاش في المنطقة الشمالية من سوريا والعراق أقوام كثر، أثروا بثقافاتهم ما اصطلح على تسميته بـ”الجزيرة السورية”، وفي استعادة للتراث اللامادي للمنطقة، قدمت دار أوبرا دمشق حفلا غنائيا تحت عنوان “من أغاني الجزيرة السورية”، يحكي قبل أن يغني التراث الجزراوي الموغل في الخصوصية.
دمشق - مصطلح “الجزيرة السورية”، يطلق جغرافيا على المنطقة التي تقع شمال شرق سوريا، الممتدة من محافظات الحسكة والرقة شرقا والممتدة شرقا حتى دير الزور وصولا إلى حدود العراق، وهي المعروفة بغناها الطبيعي نتيجة وجود نهري دجلة والفرات فيها.
وفي المنطقة يعيش الملايين من الناس الذين ينتمون إلى العديد من الأديان والأعراق البشرية: عرب، كرد، تركمان، سريان، آشوريين، شركس، شيشان، يزيديين، وغيرهم.. لذلك كانت المنطقة غنية بالتراث الحضاري لكل هؤلاء الذين باتوا يشكلون نمطا تراثيا واحدا يسمّى “جزراوي” يجمعهم جميعا في حاضن حضاري واحد، يضم ما أوجدوه من إبداعات في فنون الموسيقى والغناء والتقاليد الحياتية اليومية.
وفي الجانب الموسيقي يضم التراث الجزراوي، أغاني تظهر فيها أكثر من لغة كما تظهر في حلقات الدبكة المشتركة، ومن تلك الأغاني “باقية” التي تحتوي على كلمات باللغة السريانية وكذلك الكردية، وينسب كل طرف منهما هذه الأغنية له، إلاّ أنهما يتفقان على أنها من التراث الجزراوي والتي تظهر في أفراح كليهما في حلقات الدبكة.
كما تعرف في المنطقة العديد من الأغنيات التي تتداخل فيها اللغة العربية بالكردية، من ذلك مثلا أغنية “يا دلهو”، وفي تناغم مع تراث منطقة الموصل تظهر أغنية “يردلي” التي تتحدث عن شاب مسلم يعشق فتاة مسيحية، لا يعترف حبهما بالحواجز، فيغني لها “أبوك هالأسمر حلو ما جا على ديني، أنت على دينيك وأنا على ديني تصومين خمسينك وأصوم ثلاثيني”.
حديثا، وفي مقاربة لتأكيد هذه الحال التراثية، أقامت دار أوبرا دمشق، حفلا فنيّا تحت عنوان “من أغاني الجزيرة السورية” قدمت فيه باقة من الأغنيات التراثية المتنوعة في ما يعرف بالتراث الجزراوي، ضمّ أغاني في العربية والكردية والمردلية.
في سوريا حضارة عمرها آلاف السنين، وفي المنطقة المئات من الألحان والمعزوفات التي تظهر البعد الحضاري العميق الذي تنتمي إليه
وفي الحفل البسيط شكلا والغني مضمونا تفاعل الحضور مع أربعة آلات موسيقية هي: البزق التي عزف عليها آلان مراد، والباغلمة (عبدالله علو)، والتشيللو (عماد مرسي) والإيقاع (طلال غريب)، أما الغناء فأمّنته الفنانة الشابة غادة عمر بمشاركة آلان أدريس، واستعرض الحفل الذي امتد لمدة زمنية تزيد عن الساعة، أغاني ومعزوفات تخص الريف في المنطقة وبعض المناسبات.
وتقول غادة عمر المغنية الرئيسية في الحفل في إجابتها عن سؤال لـ”العرب” حول أهمية وجود هكذا حفلات لتعريف الناس بهذا التراث الموسيقي الغني، “أنا سعيدة جدا بغناء هذا النوع من التراث الذي عرفته وتعلمته وغنّيته هنا في العاصمة دمشق، هي ألحان جميلة لها أصالتها وجمهورها، اخترت من الأغنيات ما هو معروف، لكي يكون التفاعل أكبر، ولكي أكون في حالة حوارية مع الناس حتى تفهم لاحقا بشكل تام، أحاول بمشاركة العديد من الأشخاص والأصدقاء والداعمين، مثل منسق هذا الحفل أدريس مراد، تقديم هذا النمط الغنائي الجميل منذ زمن، عبر فرقة ‘آشتي’ وغيرها، ونسعى إلى تعزيز هذا التوجه دائما”.
وعن نشاطها الفني المتنوع بين الغناء والسينما، تبيّن غادة “أنا شغوفة جدا بالفن، ولي فيه طموحات كثيرة منها ما هو موسيقي ومنها ما هو سينمائي، كنت أحضر لهذا الحفل الغنائي وكذلك لإخراج أول فيلم قصير لي ضمن منح الشباب التي تقدمها المؤسسة العامة للسينما، كوني خريجة دبلوم العلوم السينمائية وفنونها، قدمت الحفل الذي سعدت جدا به كخطوة جديدة لي في هذا الاتجاه، كما قدمت فيلمي الأول ‘الحقيقة’ الذي لعبت فيه دورا تمثيليا كذلك، ومازالت لديّ العديد من الأفكار في الغناء والسينما، آمل أن تظهر تباعا في العديد من المشاريع المتنوعة”.
وقال آلان مراد عازف البزق والمغني في الحفل عن مشاركته، “في سوريا حضارة عمرها آلاف السنين، وفي المنطقة المئات من الألحان والمعزوفات التي تظهر البعد الحضاري العميق الذي تنتمي إليه، قدمنا مجموعة مختلفة من المعزوفات والأغاني من أجل خلق حالة تفاعلية بين الجمهور السوري العام وتراث المنطقة”.
وبدوره، يبيّن عبدالله علو عازف آلة الباغلمة، والذي يعتبر أحد أهم عازفي هذه الآلة في سوريا، بقوله “الهدف من الحفل هو التأكيد على التراث الحضاري المتنوع والغني الذي تمتلكه المنطقة، فعلى هذا التراب سكنت أقوام كثيرة عبر آلاف السنين، ترك كل منها تراثه وموسيقاه، ويجب علينا في العصر الحديث الخروج من الانغلاق والتوجه نحو الآخر من خلال الموسيقى التراثية التي تجمعنا”.