تونس: ورثة انتهازيون لتركة "الحقيقة والكرامة"

فوت تأخّر بداية مسار العدالة الانتقاليّة على تونس فرصة أن تذهب بجراحها وآلامها إلى "التعميد الوطنيّ الشامل".
الخميس 2019/01/03
المصالحة الوطنية لا تزال بعيدة المنال

بتقديم هيئة الحقيقة والكرامة للتقرير النهائيّ للرئيس التونسي الباجي قائد السبسي تكون قد اختتمت أعمالها الخاصة بمسار العدالة الانتقالية بشكل باتّ ولم يبق لها سوى تسوية أوضاعها الإدارية وتسليم أرشيفها الضخم والمهمّ إلى مؤسسة الأرشيف الوطنيّ المتعهدة بحفظ الذاكرة الوطنيّة.

نهاية عمل هيئة الحقيقة والكرامة، لا يعني أنّ مسار العدالة الانتقالية قد انتهى، بل قد يكون الأمر على العكس تماما، فأمام الجهاز التنفيذي واجب تنفيذ توصيات التقرير النهائيّ للهيئة، وأمام المحاكم المختصة في العدالة الانتقالية مهامّ البتّ في ملفات وقضايا جدّ مهمّة ومفصليّة، وأمام صندوق الكرامة استحقاق جبر الضرر المادي لكافة الضحايا، وحيال المجلس التشريعي مسؤولية تشكيل لجنة برلمانية لمتابعة تنفيذ التوصيات، وعلى مجلس الهيئة نشر التقرير الختاميّ للرأي العامّ.

بمعنى آخر، لا تزال المسارات الكبرى المجسدة لفلسفة العدالة الانتقالية ونعني بها كشف الحقائق ومحاسبة المورطين، جبر الضرر، حفظ الذاكرة، والمصالحة الشاملة، بعيدة المنال، سواء في مستواها الإجرائيّ التنفيذي أو في مستواها الرمزي المعنويّ، حيث لا تزال الذاكرة الوطنية متشرذمة بين أنصار النظام السابق وسرديات الثورة، ولا تزال المصالحة الوطنية بعيدة المنال، لا فقط لمحدودية أداء هيئة الحقيقة والكرامة بل لأنّ الفاعل الاقتصادي والاجتماعي صار اليوم عاملا أساسيا ومركزيا في المفاضلة بين ما قبل 14 يناير 2011 وما بعده.

أضاعت التجربة التونسية عاملا أساسيا من عوامل نجاح التجارب، وهو عامل “الزمن الانتقالي”. وفوت تأخّر بداية مسار العدالة الانتقاليّة على تونس فرصة أن تذهب بجراحها وآلامها إلى “التعميد الوطنيّ الشامل”، وأن تقطع الطريق أمام المستثمرين سياسيا في العدالة الانتقالية والذين حوّلوها إلى ورقة سياسية وانتخابية مربحة إما لترهيب الخصوم وإما لترغيب المانحين، وعندما تملّك الفاعل السياسي المسار، ضاعت البوصلة.

قضمت انتخابات المجلس التأسيسي في 2011، الكثير من شرعية العدالة الانتقالية عندما رفع فيتو ضدّ المشاركة الانتخابية على رجال النظام السابق، وعلى الطرف النقيض بُني تحالف حركة النهضة ونداء تونس على تعليق الفيتو على “التجمعيين” في انتخابات 2014. وتجذّر التقارب على وقع المصالحة الإدارية، ويتكرس اليوم التوظيف المتبادل بين النهضة ورئيس الحكومة يوسف الشاهد على قاعدة استكمال مسار العدالة الانتقالية.

المفارقة أنّ التصريح ذاته، بنفس المنطق والمنطوق، صدر عن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد تقريبا في نفس اليوم، التوافق على استكمال العدالة الانتقالية بعد التخلص من هيئة الحقيقة والكرامة والتقاطع على ضرورة اجتراح مبادرات تشريعية جديدة في الغرض، وهو أمر لا يفهم إلا في سياق شحن الجسد المترهل بدفعات كهربائية وإحيائه سريريا فقط إلى حين بلوغ الانتخابات العامة.

هكذا تصير “قضيّة سامية” مثل العدالة الانتقالية مضرب انتهازية سياسية ومجال استثمار بين الأحزاب.

قد يكون من المبكر للغاية، تقييم تجربة العدالة الانتقالية في تونس خاصة وأنّ العديد من المحطات لم تكتمل، وقد يكون من المجانب للصواب أيضا الدخول في مقارنات كمية وكيفية مع تجارب العدالة الانتقالية الأخرى سواء في المغرب الأقصى أو جنوب أفريقيا أو شرق أوروبا، ولكن الأكيد أنّ التجربة لم تحظ بالإجماع المطلوب ولم تداو كافة الجروح التاريخية.

هيئة الحقيقة والكرامة بقصورها في المقاربة التشاركية للمجتمع المدني وللفاعلين السياسيين والإعلاميين إضافة إلى موجة التشكيك في شرعيتها القانونية ومصداقية أدائها، كانت بدورها جزءا من إضاعة فرصة تاريخية على تونس، تدخل بمقتضاها الأخيرة مسارات معالجة الماضي والتصالح مع الذات الوطنية الجماعية بكثير من المصالحة والمصارحة والتجاوز.

هل سيقدر التقرير الختامي على ردم الهوّة الرمزية والتاريخية في قلب رحى العدالة الانتقالية؟ صراحة لا نعلم ولا نتصور أيضا، ولكن ما نعلمه أنّ هناك الكثيرين من المتربصين السياسيين بمسار العدالة الانتقالية، سيستفردون بشكل مطلق بملفات الذاكرة الوطنية وبقضايا المحاكم المتخصصة، وسيبنون على أنقاضها وركامها تحالفات بعضها انتخابية وأخرى حكوميّة… “الأعين الآن على صناديق الاقتراع لا على صناديق الأوجاع”.

8