ملامح الحياة الشعبية في مصر تسرق عيون الكاميرا

إمبراطورية الصورة في معرض الصور الصحافية بمصر خلال 2018 جاءت لتقول كلمتها بوضوح وصراحة: الحياة الحقيقية لا تزال في مصر الشعبية، في القرى الريفية والأحياء القاهرية العتيقة.
الاثنين 2018/12/31
صناعة الحياة (منى حسين)

لم تعد الصور التي نستعد لها بحلق الشعر ولبس أحسن ما لدينا تثير اهتمامنا ولا اهتمام الآخرين، هي فقط تذكرنا بالمناسبة التي تمّ تصويرنا فيها، وهي غالبا ما تكون في العيد أو في ختام السنة الدراسية، الصورة اليوم صارت متحركة ومعبرة عن صدق عفويتها في التعبير عن حادثة أو موقف، صارت الصورة تؤرخ وتوثق للحظات تاريخية أو اجتماعية لحياة الناس، لذلك استحوذت على الاهتمام في عصرنا الراهن الذي نسيمه بعصر الصورة.

القاهرة- الصورة الفوتوغرافية المتفوقة تلك التي تصف حالة أو تسرد قصة ولا تكتفي بالرصد المحايد، وقد كشفت نتائج مسابقة أفضل الصور الصحافية بمصر خلال عام كامل انحياز عيون الكاميرا الفنية لملامح الحياة الشعبية في مصر بفقرائها وأناسها البسطاء.

تلعب الصور الصحافية دورا بارزا في إثراء محتوى وسائل الإعلام منذ منتصف القرن التاسع عشر، بداية من الصحافة الورقية وصولا إلى ميديا الموبايل، وللفوتوغرافيا جمالياتها الخاصة التي تؤهلها لمنافسة الرسّامين المبتكرين، إذ قد تتجاوز الصورة مجالها الإخباري لتصير تسجيلا تفصيليّا لجوانب الحياة ومشاهد الواقع وحركة التاريخ بمصداقية ربّما لا تتاح للكلمات.

ارتكزت مسابقة أفضل الصور الصحافية بمصر خلال 2018، على تقييم فنيات اللقطات، من حيث قدرتها على التعبير الحي النابض، وعمق الفكرة والموضوع والوعي، بالإضافة إلى التقنيات المتعددة من تكوين ومنظور وزوايا وإضاءة وتناسق بين العناصر وما إلى ذلك.

جاءت الصور الفائزة بجوائز مسابقة أفضل الصور الصحافية “مصر 2018″، في المجالات المختلفة، بمثابة صيغ بصرية دالة، تختصر ملامح الحياة الشعبية في مصر، من خلال لقطات صغيرة مجسّمة موحية تثبّت الزمن، كاشفة فضاءات لا نهائية للتأمل.

أحياء منورة بناسها (محمد سويفي)
أحياء منورة بناسها (محمد سويفي)

هذه الصور، استضافها معرض خاص اختتم في “ساقية الصاوي” بالقاهرة في 29 ديسمبر، تنوّعت بين حقول عدة، منها الحياة اليومية والقصة الصحافية وميديا الموبايل وصحافة الفيديو والتغطية الرياضية، في داخل مصر وخارجها، بإشراف شعبة المصورين الصحافيين (تابعة لنقابة الصحافيين المصريين)، بالتعاون مع جهات أخرى.

حديث بصري

 بإمكان الصورة الصحافية أن تقول الكثير من المعاني… هذا ما يلاحظه المتأمل في طبيعة الصور التي شهدها معرض الفوتوغرافيا المتفوقة بالقاهرة، فالصورة تحكي باستفاضة؛ مجسدة حالة، أو ساردة قصة، أو معبرة عن طبقة اجتماعية، أو مفصحة عن مكنون إنساني كامن.

هذا هو عصر الصورة بامتياز، هذه المقولة ليست من فراغ، فالصورة دائما تلك الرسالة الإعلامية التي لا تقبل التحريف، وهي في الوقت نفسه ليست مرآة مسطحة تعكس الأحداث آليّا، وإنما تعيد إنتاج الواقع وفق رؤية جمالية وحساسية فنية، وهنا تتجسد وظيفتها المزدوجة، بين نقل ما جرى، وتحليل مضمونه بعمق.

الصورة الطامحة إلى أن تكون ذات قيمة، تجمّد لحظة ما معلقة في مكان ما، على المستوى الظاهري فقط، لكنها في حقيقة الأمر تحرر هذه اللحظة، وتفجّرها، بهدف تخليدها، من خلال تحويلها إلى مادة للتفاعل مع المجال البصري لآخرين، كبؤرة للتوتر وإثارة المشاعر والتفكير.

ويمكن القول ببساطة إن الصورة بمقدورها أن تغازل الموروث الوجداني والاجتماعي للمتلقي، وتعيد تشكيل حواسه بتأثيراتها القوية المبهرة، وبإمكانها أن تكون شاهدة على العصر، وتطير بما جرى بالأمس إلى يومنا هذا، وتحمل ما يجري اليوم إلى المستقبل، موثقة للبشر ومؤرخة للأحداث في آن.

جاءت إمبراطورية الصورة في المعرض الأخير لتقول كلمتها بوضوح وصراحة: الحياة الحقيقية لا تزال في مصر الشعبية، في القرى الريفية والأحياء القاهرية العتيقة، حيث الروح الإنسانية الطازجة، وبكارة الأحاسيس، ووضاءة الملامح، ونصاعة القلوب، والدفء العائلي.

طاقة استثنائية

انصبت عدسات الفوتوغرافيين على الزخم والحركة والحيوية في تلك المناطق الريفية والشعبية، لتنهل من معينها الذي لا ينفد، وتستمد طاقة استثنائية من صدور الفقراء والمعدمين، أولئك الذين ينبشون بأظافرهم مفتشين عن السعادة، ويتحدّون بإرادة المقاومة كل الظروف المعيشية الصعبة، ويحاربون الأخطار المحدقة ببسالة، وبجرأة تصل إلى المغامرة والمخاطرة.

فنانون بحق، هؤلاء الذين انطلقوا بالكاميرا المرهفة لتسجيل هذه القصص والوقائع والمشاهد، وتفاصيل الحياة اليومية؛ فمن طفل يستحم في الترعة بعدسة أحمد دريم، إلى امرأة عجوز تغزل خيوطها بعدسة منى حسين.

خميرة مصر (هشام محمد)
خميرة مصر (هشام محمد)

ومن سباق الخيول في القرية بكاميرا جلال المسري، إلى سوق الأغنام بكاميرا محمد الحصري. ويعرج كريم عصام على الفلاحات اللاتي يخبزن الأرغفة الشهية، ويلتقط محمود الخواص صورا لأطفال مبتسمين وهم محشورون في حافلة ضيقة.

العشرات من اللقطات الدقيقة، الحية، المتحركة، التي تصور النثارات، وتكشف الهامشي، وتعيد المنفيين إلى بؤرة الضوء. يرصد عادل عيسى رجلا عجوزا يرقد على الجسر منهكا من التعب إلى جوار دراجته، وتسجل فاطمة مرزوق حالة امرأة عجوز معدمة في بيتها الطيني، ويقدم محمد سويفي الفقراء المتزاحمين في نوافذ بيوتهم العشوائية.

تتجوّل عيون المصوّرين راصدة كل ما يمكن تخيله من ملامح الحياة البسيطة، والبائسة، التي لا تخلو أيضا من سعادة وقناعة، فللفقراء شواطئهم المجانية، وأراجيحهم الخاصة التي يصنعونها بأنفسهم من الأقمشة، وموائد الرحمن التي يصطفون أمامها لتناول الطعام، وألعابهم الخطرة كالوقوف فوق الدراجة النارية أثناء سيرها، وقيادة الأطفال للجمال. وكذلك، للطفلة الريفية عروستها النظيفة التي تلهو بها، رغم انغراس قدميها في التربة الطينية.

برع فنانو المعرض، ومنهم أيمن جمال ومحمود خالد ومؤمن سمير وإسلام فاروق وهشام محمد وعلاء حسين ومحمد السعيد وغيرهم، في التقاط تفاصيل المشاعر الإنسانية البادية على الوجوه، خصوصا لحظات البهجة في أوقات المرح، والإنهاك من شدة التعب وضغوط العمل، والحزن في المواقف المؤلمة كتشييع جنازة فقيد.

وقدم المصورون مجموعة من البورتريهات لوجوه معبّرة تمثل الفلاحين والعمّال والأطفال والمسنّين في حالات متباينة.

وانفتحت أعمال الفنانين، ومنهم محمد الحصري ومحمود خالد، على الأحداث الرياضية، المحلية والعالمية، بوصفها من “القوت اليومي” للبسطاء، ومصادر البهجة أحيانا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بنجم الكرة محمد صلاح، القادم من قرية مصرية بسيطة إلى فضاء العالمية، إذ يجد فيه الكثيرون صورة لأحلامهم وتطلعاتهم.

معرض الصور الصحافية المتميزة بمصر، اختصر طريقه إلى الجمال بالانحياز إلى العاديين من البشر، فجاء مضمونه قويّا، معبّرا ومؤثرا، وقدّم قراءة جريئة لمعاناة المطحونين اليومية في الأحياء القاهرية البائسة، والقرى المصرية الفقيرة.

20