التشكيل العالمي: الستريت آرت بين مقاومة الليبرالية وتحدي المتحفية

حفلت المتاحف ومراكز الفن وأروقته بالعاصمة الفرنسية باريس في العام 2018 بمعارض متنوعة، سلط بعضها الضوء على تجارب جديدة من فرنسا وخارجها، فيما نظم بعضها الآخر معارض استعادية لوجوه غير معروفة على نطاق واسع كالسويدي أندرس زورن، والهولندي كيس فان دونغن، والروسي يوري كوبر، فضلا عن الفنانين الكبار أمثال جاكوميتي، وكرافاجو، وكليمت، وميرو، وبيكاسو، وسيباستيان بوردون.
حفل المشهد التشكيلي الفرنسي في العام 2018 الذي يشهد نهايته بعد سويعات قليلة بالعديد من التجارب المميزة سواء في الفن المعاصر، أو في أساليب التعبير الفني المبتكرة التي لم تتشكل بعد ضمن تيار أو مدرسة، أو في الستريت آرت الذي اتخذه بعضهم وسيلة لمقاومة الليبرالية ومجتمع الاستهلاك، فيما توسل به آخرون لتحدي المتحفية والوصول إلى عامة الناس.
فنون معاصرة
في الفن المعاصر، تستوقفنا تجربة البريطاني دفيد هوكني الذي فتن بالتكنولوجيات الحديثة وبالإمكانات التي توفرها لخدمة الفن، إذ كان يقوم بعملية مونتاج للصور التي يلتقطها من زوايا مختلفة، ويعيد تركيبها ليعدد زوايا النظر على الطريقة التكعيبية، ثم انتقل إلى الرسم بالكمبيوتر والطابعة والـ”آي باد”، فساعدته على تخير ألوانه وأصباغه.
وهو ما يلمسه الزائر في أعمال معروضة على شاشة كبيرة أنجزها بالـ”آي باد” وحده، وما هي في الواقع سوى مواصلة لما كان بدأه حينما عكف على استعمال الفيديو، إذ كان يعيد بناء المشهد نفسه في سائر الفصول بالتقاط صور عنه بواسطة ثماني عشرة كاميرا من زوايا مختلفة ثم يبث ذلك على شاشة ضخمة.
أما عن تجربة الياباني تسوغوهارو فوجيتا، فقد تميزت بتقنية تشبه الرسم على العاج، حيث يحيط رسومه بالأسود مع ألوان شفافة متناثرة كبُرادة الحديد. ولم ينجذب فوجيتا إلى التيارات التي كانت رائجة في عصره، بل اكتفى من الفنون التشكيلية الغربية بفن التصوير، ونقل الأحجام، واتجاه الظلال التي تقولب الأشكال، ومرونة الخط، قبل أن يختط أسلوبه، كثمرة تنافذ بين ثقافتين، باريسية ويابانية.
فرنسا احتفت بالفنان التشيكي فرانتيشيك كوبكا عبر معرض يغطي مجمل آثاره الفنية الموسومة بالرمزية
وكشف العام 2018 عن بعض الوجوه المنسية كالفرنسي جان فوتريي الذي تأثر بفظاعات الحرب، فرسم منذ العشرينات أناسا بسطاء ذوي ملامح كالحة، يعلوها البؤس والشقاء، في لوحات قاتمة تذكر بالفن الفلمندري في القرن السابع عشر، إذ كان حريصا على نقل أثر الحرب في حياة الناس.
وكان فوتريي يركز في رسم بروتريهاته على ألوان الحِداد، وإن عُرف عنه عدم التزامه بمذهب، فهو ينهل من غويا، مثلما ينهل من رمبرانت ووليم تورنر، ولذلك وُصف بمبتكر الفن الفوضوي، بمعنى الفن الذي لا يخضع لشكل أو نظام أو قانون، إذ ينطلق من حدث واقعي، أو من وضعية ما، ويتصور أشكالا تجريدية، تاركا لنفسه حرية الارتجال والسير في سبل مجهولة دون سابق تخطيط.
كذلك التشيكي فرانتيشيك كوبكا الذي كان شاهدا على تحولات فنية كثيرة، من الرمزية إلى البوب آرت، مرورا بالانطباعية والتكعيبية والسريالية والتجريدية، ولكنه كان حريصا على عدم التقيد بمدرسة من تلك المدارس الفنية الكبرى، تلك التي كان يسميها إيزم « ismes»، وقد ظل يرفض تسميته بالفنان التجريدي رغم أنه أحد رواد التجريدية إلى جانب فاسّيلي كادينسكي، وجينو سيفريني، وبييت موندريان، وكازيمير ماليفيتش، وأوغست هربان، وروبير دولوني، قائلا في استنكار “لوحاتي تجريدية؟ لماذا؟ الفن التشكيلي فن ملموس: لون، أشكال، دينامكية. الابتكار هو المهم، ينبغي أن نبتكر ثم نبني”.
ومثله الصيني زاو ووكي الذي عدّه النقاد فنانا عالميا، ولكن فرص تناول أعماله بالنقد لإبراز تنوعها وتمازج عناصرها وتنافذ لقاحاتها لا تزال نادرة في الساحة الفرنسية.
ورغم اعتناقه الجنسية الفرنسية عام 1964، وتأثره بالتيارات الغربية، ظل وفيا لتربته الأولى، يستقي منها مناظرها (ولو أنه لا يحب لفظة “منظر” ويفضل عليها عبارة “طبيعة”)، يتبدى ذلك في لوحاته الضخمة التي تحيل على الفن الصيني، وليس غريبا أن أغلب لوحاته أفقية، مثل مناظر طبيعية، وكأنه لا يرسم صورا مستوحاة من منظر طبيعي، بل طريقا ينفذ إلى قلب الطبيعة.
رسكلة المهمل
أما من المجددين، فقد توقفنا في العام 2018 عند تجربة الفرنسي جواكيم رومان الذي يقوم عمله على تحويل ما نعرفه إلى شيء جديد بعد إخضاعه لرسكلة فنية ذات رؤية مخصوصة، فالفكرة الثابتة في كل أعماله تحوم حول البلى، فهو وإن كان مثل بائع الأنتيكا الذي ينبهر بمرور الزمن على الأثر الفني، يعجّل عامل البلى ويخرج لوحاته مخرجا فنيا.
وخير مثال على ذلك أعماله على الصدأ، ولو أن قاعدة فنه الأساس هي البورتريه المشروط بآلة حادة، وفي رأيه أن في آثار الزمن نوعا من الإجلال، فلئن كان البلى في مجتمع الاستهلاك المفرط صنوا للتدمير والنفاية، إلاّ أنه يمكن أن يكون له وجه آخر في نظر الفنان، فهو يعتقد أن للهرم عدة درجات، ومن ثَمّ يحرص دائما، مثل مرمّم الآثار الفنية القديمة، على تحويل فائدة الأداة بجعلها أثرا فنيا يمكن تأمله.
كذلك الكندي بنجامين فون وونغ الذي حاز شهرته بفضل إخراجه البديع للصور الشمسية التي ينجزها، إخراج يقوم على أسلوب فني بالغ الواقعية، يمزج فيه بين صور واقعية وخدع فنية. وكان لمعرفته بالهندسة ما مكنه من حل مشاكل الريتوش بيسر، وجعل كل صورة تروي حكايتين: حكاية موجودة في الصورة، وأخرى موجودة وراء ابتكارها.
وقد اعتاد أن يبين لهواة فنه كيف يحصل على أفضل النتائج باستعمال المؤثرات الخاصة، ويضيف نوعا من الضبابية على صوره، ويتحكم في الريتوش ليحوّر أو يتمّم الصورة برذاذ من الحبر الأسود في الفوتوشوب، فالغاية بالنسبة إليه هي تحسيس أكبر قدر ممكن من المدافعين عن البيئة، كما فعل في عمله الذي يحذر فيه من الفضلات الإلكترونية التي لا تخضع لإعادة تدوير.
فن الشارع
أما في مجال الستريت آرت، فقد أعاد العام 2018 إلى الأذهان تجربة أحد رواد هذا الفن، ونعني به الهايتي جان ميشيل باسكيا الذي ترك، رغم رحيله المبكر، آثارا تعد إسهاما حقيقيا في مدونة فن الشارع، وموقفا جريئا من القضايا المجتمعية، ففي رسومه الطفولية تعبير عن صراعه ضد غياب الصورة السوداء في عالم الفن، إذ كان يريد تجسيد الثقافات والانتفاضات الأفريقية الأميركية في أعماله، فجعل من الشارع مشغلَه، ومن السكان مصدرَ إلهامه، ومن السود الأميركان ذي الأصول الأفريقية أبطالا تُعصِّب جباههم أكاليل من الشوك. قال عنه أندي وارول “باسكيا كان مرآة تعكس ما كان، وما يكون، وما يحلم أن يكون”.
إلى جانب الأميركي جون وان الذي كان يستعمل تقنيات تتراوح بين الزيت والأكريليك والحبر السريغرافي والكولاج على لوحات من ورق الهانجي التقليدي، الذي يستحضر من ورق التوت، لينجز أعمالا قصيرة الأمد حين كان يخطها في الفضاءات المدينية، ثم مديدة الأجل بعد أن انتقل إلى القماشة.
وبدأ جون وان بأعمال تصويرية وخطوطية، ولكن ذلك لم يكن يوافق نزوعه إلى الحرية، ما دفعه إلى التجريدية، وجعله ينتقل من عربات المترو إلى القماشة، لأنه كان يريد الحفاظ على أعماله، ليسجل رؤيته للمرحلة التي يعيشها، ويوقع اسمه على كل لوحة رغبة في البقاء. يقول “الفراعنة بنوا الأهرام، وأنا أحاول بناء عمل يدوم بعد موتي.. بهذا المعنى تغدو رسومي ماضيّ وحاضري ومستقبلي”.
أو البرتغالي فيلس الذي يستعمل موادّ مختلفة كالخشب والمعلقات والمعادن والبوليستيرين، ولكن ما يميزه عن سائر فناني الستريت آرت هو طريقته في حفر الجدران لكي يبرز ملمحا من ملامح ماضي المكان الذي يشتغل فيه ووجها من وجوه أهله.
دفيد هوكني كان يقوم بعملية مونتاج للصور التي يلتقطها، ويعيد تركيبها ليعدد زوايا النظر على الطريقة التكعيبية
وقد اعترف النقاد بأن أسلوبه لا مثيل له في العالم، وأن صاحبه أحدث ثورة فنية حقيقية، من جهة الرؤية الفنية، ومن جهة الأسلوب الذي اختاره وهو القَشط، ذلك أنه يختار واجهات المحلات وأبوابها المعدنية الصدئة، ولا سيما البيوت المهجورة، والجدران المتداعية، فيعمد إلى نحت الحجر لخلق وجوه أناس غير معروفين في الغالب، ويعيد إلى المواطن العادي مكانته التي يستحق: فالمدينة في رأيه، وكذا العالم بأسره، هي ملك للشعب أولا وأخيرا، وليست ملكا للأحزاب ورجال السلطة.
كذلك فعل مواطنه بوردالو الثاني الذي ينهل من أكوام من الفضلات مادته، لا يذل أمامه أي شيء، من خوذات ركاب الدراجات النارية والعجلات المطاطية ومصابيح السيارات والأنابيب المعدنية وقوائم الكراسي، إلى علب الصفيح وأكياس البلاستيك والورق المقوى وهشيم الزجاج وعلب السردين، ثم يعمل على إعادة تدويرها بطريقته الخاصة، وتتمثل في استعماله تقنيات مختلطة على دعائم من الخشب، يلصق عليها المهملات، متخيرا موضوعه، والمكان الذي سوف يعرض فيه إبداعه. وفي أعماله تتجلى الموهبة والجدة والجمال وخاصة الرسالة، فهو فنان ملتزم لا ينفك يحذر العالم من الإفراط في تكديس الفضلات.
وفي المقابل، هناك فنانون ابتكروا لأنفسهم مسارا خاصا غير الستريت آرت، الذي يحتل صدارة الابتكارات الحديثة، كالفرنسي سيد فرناي الذي يلقب بفنان البيكسل، ففي وقت تخلى فيه المصورون والكاميرامان ومصممو الشبكة عن البيكسل، اختار فرناي أن يجعله في صميم عمله كرمز للنقص الذي يعتري البشر.
ولمقاربة عمله، ينبغي على المشاهد أن يتثمل طريقة استدلاله، بجعل الجانب الأيمن من المخ، ذلك الذي يخص الإدراك الكلي للأشياء، يستكشف الأثر المعروض، ممثلا هنا في بيكسلات صغيرة، لا تعني منفردة أي شيء، ليعيد تشكيل الصورة، أو البورتريه، في شموليته.
وهو إذ يجعل البيكسل في صميم فنه، يطرح سؤالا عن مكانة الإنسان في عالمنا المعاصر، ويبين كيف أن الأشياء التي يشوبها خلل يمكن أن تغدو مكتملة، في عالم لا يني يخضع للتعقيم والمراقبة، وأن إنسان هذا العصر، المرتبط بالشبكة أغلب أوقات يومه، لا يني هو نفسه يتحول إلى ركام من البيكسل.
أو مواطنه جلبير بير مبتدع الإلكتروميكانيكا، فمنحوتاته آلات متحركة غريبة وشاعرية صنعها بنفسه من أشياء مهملة، فأمكن لها بلمسة من الكهرباء والميكانيكا والمطاط والإلكترونيك أن تعود إلى الحياة وتصبح شخصيات خرافية قاسية أو ساحرة.
ومن خلال التوفيقات المتساوية الحدين، درامي وكوميدي، يصل جلبير بير المهارات الصناعية اليدوية بالتقدم التكنولوجي، فهو يستعيد ويحوّل ويجدّد تأهيل ما حكمت عليه التكنولوجيا بأنه عديم القيمة، ليعيد إليه اعتباره.
فضلا عن الهندي سوبود غوبتا الذي لا يلتزم بالتقاليد الهندية وحدها بل يشفعها بمؤثرات الفن الغربي المعاصر، يتبدى ذلك في أعمال تحيل على الثقافة الشعبية، البصرية والروحانية في الهند، مثلما تحيل على بعض أعمال رواد الفن المعاصر في الغرب.
ويتجلى ذلك في عدد الجفان المعلقة في شكل طوابق، سواء أكانت من الألمنيوم أو الإينوكس أو النحاس الأصفر، وكلها لا تعكس ثنائية الغذاء والحياة، وكثافة الشعب الهندي السكانية، وذكاءه العلمي فحسب، وإنما تعكس أيضا حركته الدائبة وأخذه بأسباب الحداثة وتشييده ناطحات سحاب عصرية التصميم. فمقاربته وإن كانت حداثية، تخالف مقاربة الأميركي جيف كونس، لأنها تنهل من أشد مظاهر الحياة اليومية بساطة لتضعنا في مواجهة المشاكل الكونية.