عصر المنشطات التكنولوجية يهدد عرش الرياضة

طموحات رواد الذكاء الاصطناعي كبيرة بحجم أحلام الرياضيين الذين يسعون إلى تحقيق النصر بأي ثمن، لكن كليهما قد يصبح متواطئا في تقويض عرش لعبة جميلة مبنية على القيم والمبادئ الإنسانية والقانونية، عندما تجد المنشطات التكنولوجية طريقها إلى أجسام اللاعبين، لتمس شغفا جماهيريا رياضيا كان حتى وقت قريب متوهجا.
مازال عالم الرياضة يواجه معركة لا تنتهي لمكافحة استخدام المنشطات غير الشرعية، التي يلتجئ إليها البعض من الرياضيين بغية تحسين قدرة أجسامهم على التدريب، وتجاوز الشعور بالإعياء، وتقليل الوقت المطلوب للتعافي بعد المجهود البدني المضني المبذول، والتنافس بأعلى المستويات، ودفع حدود الجسم نحو تحقيق إنجازات رياضية وأرقام قياسية.
ويثير تعاطي تلك العقاقير الاصطناعية في المنافسات اشمئزاز محبي الرياضة في العالم، ويهدد صحة الرياضيين وحياتهم أيضا.
ويعد تعاطي المنشطات من الممارسات القديمة جدا، وقد سجلت المخطوطات في العصور القديمة هذا السلوك خاصة بين المحاربين.
ومنذ إنشائها سنة 1999 من خلال مبادرة جماعية بقيادة اللجنة الأولمبية الدولية، تسعى الوكالة الدولية لمكافحة المنشطات “وادا”، لبلورة خطط ملموسة تسمو بالرياضة التي غرقت في وحل منشطات عكرت صفاء المنافسات، وقوضت مبدأ العدالة الرياضية.
ويستخدم الرياضيون عقاقير منشطة تم تطويرها في الأساس لمعالجة الأمراض كالهزال العضلي وفقر الدم. وعلى سبيل المثال تم تطوير هرمون النمو البشري الذي يقوم بتحفيز تكاثر الخلايا وتجديدها، لمعالجة اضطرابات ونقص هرمون النمو لدى الأطفال والبالغين، ولزيادة الحيوية لدى المسنين، وقد تم استخدامه من قبل المتنافسين في الألعاب الرياضية منذ السبعينات لتحفيز بناء الأنسجة وزيادة حجم العضلات وقوتها، ما أدى إلى حضر استخدامه من قبل اللجنة الأولمبية الدولية.
استخدام معدات رياضية متطورة تكنولوجيا، قادرة على خلق ميزة تنافسية غير عادلة، لا يختلف في مضمونه عن تناول المنشطات الكيميائية
وكذلك عندما أصبح هرمون “إرثروبويتين” متاحا كعلاج طبي لمرضى فقر الدم، يساعدهم على إنتاج كريات الدم الحمراء التي تنقل الأكسيجين إلى الأعضاء المختلفة من الجسم، استعان به العديد من الرياضيين ليكسبهم القدرة على التحمل، ويمكن أجسادهم من الكثير من طاقة الأكسيجين لتجاوز الإرهاق والضرر العضلي، وخاصة في رياضة تستلزم لياقة بدنية غير عادية كرياضة سباق الدراجات أو الماراثونات الطويلة.
ولمواكبة ما تشهده الساحة الرياضية من انتشار واسع النطاق لعمليات تناول المنشطات، تكاثفت جهود المنظمات الرياضية العالمية للتخلص من هذه الآفة، وذلك عبر زيادة المبالغ المسخرة للبحث العلمي وتطوير تقنيات وأساليب جديدة قادرة على كشف المنشطات، والتي يتعرض بعضها للتعديل باستمرار من قبل أخصائيين وصيادلة لتكون غير قابلة للكشف.
ويسود تفاؤل بشأن إمكانية أن تساعد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في اكتشاف المشتبهين، وإزالة بعض الأعباء عن المنظمات الدولية لمكافحة المنشطات.
وفي هذا الصدد، تمكن مؤخرا فريق من الباحثين من المركز الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا بالتعاون مع أطباء من الرابطة الدولية لاتحادات ألعاب القوى، من تطوير خوارزمية كمبيوتر تستند إلى قواعد بيانات المنافسات الدولية السابقة للرياضي، لتكشف عن الاختلافات المشبوهة وغير الطبيعية في أدائه.
ويجرى حاليا اختبار هذا النظام من قبل الاتحاد الدولي لألعاب القوى، ويأمل الخبراء أن يعطي هذا السلاح الرقمي الجديد دفعا معنويا إضافيا لجهود مكافحة المنشطات التي تهدد بإغراق الرياضة، ويكون مكملا لـ”جواز السفر البيولوجي” الذي أنشئ سنة 2009 لكل رياضي رفيع المستوى، والذي يضم نتائج جميع العينات البيولوجية الرسمية التي تعرض لها خلال مسيرته الرياضية.
ومع أن المنشطات الكيميائية تعد من أكثر طرق الغش شيوعا، إلا أن مصطلح “المنشطات التكنولوجية” بدأ يطفو على سطح المشهد الرياضي مثيرا الكثير من الجدل والنقاش.
ويرى البعض أن استخدام معدات رياضية متطورة تكنولوجيا، قادرة على خلق ميزة تنافسية غير عادلة، لا يختلف في مضمونه عن تناول المنشطات الكيميائية.
وتؤيد الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات حضر التقنيات إذا كانت تعزز الأداء وتتعارض مع روح الرياضة وقيمها النبيلة، ومنذ عام 2006، شرعت الوكالة في إجراء العديد من المشاورات بشأن تناول “المنشطات التكنولوجية” والتي أصبحت تمثل تهديدا للمنافسة النزيهة والعادلة.
وواحدة من أشهر حالات تعاطي “المنشطات التكنولوجية” تجلت في ملابس السباحة التي تم تقديمها في سنة 2008، “آل.زد.آر.ريسر” التي أنتجتها شركة سبيدو.
وتعد هذه الملابس من أكثر التقنيات التي تمت مناقشتها، نظرا لكونها عالية الأداء، وهي مصنوعة من مادة صممت لمحاكاة جلد سمك القرش، لتساهم بذلك في خفض مقاومة الماء ومساعدة السباحين على التقدم بشكل أفضل وأسرع.
وفي أولمبياد بكين سنة 2008 تمكن فريق السباحة الأولمبي الأميركي بفضل هذه الملابس ذات التقنية العالية من تحطيم العديد من الأرقام القياسية العالمية، وكانت نسبة 94 بالمئة من الميداليات الذهبية من نصيب سباحين يرتدون هذه البدلات.
ويعتقد الخبراء أن هذا التصميم المتقدم تقنيا كان له الفضل في تحطيم الكثير من الأرقام القياسية، وفي ضوء تلك النتائج تم حضر هذه الملابس من قبل الاتحاد الدولي للسباحة.
ومنذ ذلك الحين، باتت المنشطات القائمة على التكنولوجيا، تشكل هاجسا ومشكلة حقيقية في عالم الرياضة، وطالت في يناير 2016 سباق الدراجات، إذ تم الكشف رسميا عن أول حالة وذلك خلال منافسات البطولة العالمية، حيث أخفت المتسابقة البلجيكية فيمكي فان ديندريسشي محركا كهربائيا صغيرا في دراجتها.
واستجابة لهذا الشكل الجديد من الغش، عزز الاتحاد الدولي للدراجات سبل مكافحته لما يسمى بالمنشطات التكنولوجية أو الميكانيكية من خلال جهاز استشعار قادر على اكتشاف الحقول المغناطيسية التي
من المرجح أن تكون ناتجة عن وجود محرك أو مغناطيس أو بطارية، كما تم الاعتماد على كاميرات حرارية عالية الحساسية لمشاهدة المتسابقين.
وقد أكد الاتحاد بعد إجراء 164 حالة فحص، خلو سباق دورة فرنسا الدولية للدراجات لسنة 2018 من المنشطات التكنولوجية. ولكن رغم النجاحات المحققة في مجال مكافحة المنشطات، وكشف النقاب عن العديد من عمليات الغش، والتي كانت بمثابة رسائل رادعة للعديد من الرياضيين، لا تزال هناك تحديات حقيقية قائمة، وخاصة بعد التطور الكبير في مجال علم الجينوم، واكتشاف الخارطة الوراثية للإنسان، ومعرفة الجينات المسؤولة عن تحسين القدرات البدنية للرياضيين.
ويساور البعض قلق حول فكرة التلاعب بالشفرة الوراثية التي تحمل التعليمات اللازمة لنمو وصحة الإنسان، وجعلها تنتج الهرمونات المنشطة المرغوب فيها لتحفيز النمو العضلي للرياضيين وإكسابهم ميزات رياضية فريدة.
وفي ضوء نجاح التجارب المعملية التي خضعت لها الفئران، والتي أظهرت إمكانية زيادة الكتلة العضلية وخلايا الدم الحمراء للحيوانات عن طريق تعديل جيناتها، ما اكسبها قدرات بدنية استثنائية وسرعة فائقة وقدرة على التحمل، يعكف العلماء في المخابر على تخطي العقبات وتطوير تلك التقنيات لمعالجة المرضى الذين يعانون من ضعف العضلات وفقر الدم.
ومع أنه لا يزال من المبكر توقع نجاح عملية تعديل الجينوم في الجسم البشري، والتي مازالت طور التجارب السريرية، إلا أن هناك مخاوف تسود الأوساط الرياضية من هذه التقنية التي قد ترى النور قريبا، وتصل إلى مرحلة غير قابلة للسيطرة، فتطبيقاتها المحتملة على الرياضيين قد ترهق كاهل الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات “وادا”، بسبب صعوبة التعرف والكشف عن الجينات المضافة بعد اندماجها بشكل طبيعي في الشفرة الوراثية.
وأخذت بالفعل الهيئات والمنظمات الرسمية العالمية هذا التهديد المحتمل على محمل الجد، وفي سنة 2003 أدرجت “وادا” التقنية على قائمة المحظورات.
وتتعدد الأسئلة بالنظر لمستقبل الرياضة مع شيوع تقنية تعديل الجينات وانخفاض تكلفتها، فهل تستطيع “وادا” التكيف مع حقبة ثورة غير عادية للهندسة الوراثية، قادرة على تحقيق المعجزات؟
وهل بمقدورها إيجاد السبل والبرامج المبتكرة والقوية، الكفيلة بمكافحة المنشطات الجينية، وحماية الرياضيين الشرفاء حول العالم، والحفاظ على بيئة نظيفة وذات مصداقية للرياضة التي تعد متنفسا رائعا للمتعة والتسلية، ومهربا من مشاكل الحياة وآلامها، وجسر محبة وتواصل بين الشعوب، وساحة لتعزيز أهداف السلام والتنمية والتقدم الاجتماعي؟