عن صناعة المهرجانات وفلسفتها

يعتقد البعض أنه يكفي أن يذهب شخص ما إلى عدد من مهرجانات السينما التي تقام في أوروبا لكي يصبح “خبيرا” في إدارة المهرجانات، وهو اعتقاد يجانبه الصواب.
صحيح أن في زيارة المهرجانات العريقة الراسخة ومشاهدة كيف يتم تنظيمها، بعض الفوائد، لكن المسألة تتطلب أولا وقبل كل شيء، معرفة حقيقية بالسينما وبالثقافة السينمائية، وليس فقط القدرة على إقامة العلاقات العامة.
هناك فرق بين المبرمج السينمائي، وهو أقرب ما إلى “مقاول” أفلام، يتصيد بعض الأفلام التي تعرض هنا وهناك وينقلها إلى مهرجانه من دون أن يكون قد قام بأي نوع من “المغامرة” أو “الاكتشاف”، وبين المدير الفني للمهرجان الذي يملك رؤية أوسع وفلسفة خاصة للمهرجان الذي يديره.
ولكننا نرى المبرمج وقد أصبح بقدرة قادر، “مديرا فنيا” في غفوة من الزمن والتاريخ وفي لحظة تدهور يعيشها الواقع مع وجود رغبة مراهقة في اختلاق تظاهرة دعائية -سياحية وسياسية- على حساب الواقع نفسه الذي يعاني من الفقر والتخلف الثقافي عموما.
المدير الفني الناجح يذهب إلى أماكن وجود الأفلام الجديدة ويكتشف، كما يعرف أيضا الأفلام التي يتم تصويرها ومواعيد الانتهاء من تصويرها ويحرص على الاتصال بصنّاعها والاتفاق معهم في جلبها كعروض أولى لهذه الأفلام في مهرجانه، أما المبرمج الكسول الذي يضحك على الجهلاء المحيطين به ومعظمهم من موظفي العلاقات العامة، فهو يكتفي بالنقل والنسخ والتطفل على ما صنعه الآخرون بجهودهم.
من الخطأ أن يتم نقل ونسخ نظام عمل مهرجان ما إلى مهرجان آخر بنفس الأسلوب القديم، بل وبنفس اللوائح والقوانين المنظمة دون أي تطوير أو تعديل يناسب الواقع الآخر الذي يقام فيه المهرجان، وقد شهد عدد من البلدان العربية محاولات نسخ لمهرجانات أوروبية أو أميركية وفشلت، لكن يبقى الهاجس الأكبر لدى معظم القائمين على مهرجانات السينما العربية يتمثل في “عقدة مهرجان كان” تحديدا، والسعي إلى نقل أفلامه ومحاكاة مظاهره الشكلية دون الوصول أبدا إلى تحقيق أي نجاح يذكر في ما يتعلق بالبرامج والأقسام المتعددة المتنوعة الثرية التي يتميز بها.
والطريف أن الكثير من مديري مهرجانات تقام في العالم العربي لا يحترمون اللغة العربية ولا يقرؤون النقد العربي، فهم يحتقرون اللغة والنقد، ويعتبرون العربية “لغة خطباء الجوامع”، ولا يشاهدون الأفلام العربية إلاّ ما يعرض منها في مهرجان كان، أي ما يهيم به الفرنسيون، فهذه “النخبة” لا تعشق سوى الثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية وأنماط العيش الفرنسية وتهيم بالسينما الفرنسية.
والنتيجة أن هذه المهرجانات السينمائية تستنسخ منذ عقود، فشلا تلو فشل، فالقائمون عليها لا يدركون الفرق بين ثقافة الجمهور في بلادهم وثقافة الجمهور الفرنسي، بل إن الجمهور لا يعني الكثير عندهم، وقد رأينا كيف يرى البعض أن إنفاق المال بسخاء في نقل الأفراد من العاصمة إلى مهرجانات المنتجعات السياحية، يمكن أن يجعل القاعات المحدودة تبدو أمام الصحافيين ممتلئة بالجمهور، لكن المال لا يمكنه خلق جمهور “طبيعي”!
من الخطأ الإدعاء بأن تشجيع الفيلم العربي يكون عن طريق اتباع سياسة الكيل بمكيالين، أي وضع الأفلام العربية في المسابقة الدولية وفي الوقت نفسه تخصيص جائزة لأحسن فيلم عربي في المسابقة، أي أن المهرجان يبتدع مسابقة خاصة من داخل المسابقة العامة، وهي بدعة لا تعرفها تظاهرات السينما في العالم.
والمهرجان المحترم ليس مجرد سلة من الأفلام تعرض كيفما اتفق، بل لكل مهرجان فلسفته الخاصة التي تعكسها برامجه وطريقة توزيع أفلامه وأسلوبه في تحقيق التوازن بين الصناعة والثقافة، ولا يتم تكريم الشخصيات السينمائية ممّن فارقوا الحياة، بل للأحياء لكي يسعدوا في حياتهم بما يحظون به من تكريم.
أما من يفارقون الحياة فتقام تظاهرات للتذكير بأعمالهم إن كانت لهم إسهامات من خلال عرض نسخ مرمّمة مستعادة من أفلامهم القديمة، أما الحشو باسم التكريم فهو دلالة إفلاس.